ليست المشكلة في التكفير بل المشكلة فيما يستتبع ذلك من تهديد لحياة الناس، فلو كانت المشكلة في إعلان الآخر غبر مقبول دينياً لكان الأمر في غاية اليسر والسهولة فليست لدي شخصياً مشكلة أن يقال لي أنت كافر بصلب المسيح أو كافر بطبيعته اللاهوتية فهذه مسألة لا أنكرها ولا تزعجني لأنني أعلم أنه لن يكون لذلك تبعات أخرى، ولدي جوابي الذي يفهم منه صديقي المسيحي أنني أختار موقفي الفكري دون أي إساءة للسيد المسيح أو لمن يتبعونه بل هي طريقة أخرى في تفسير محبتي للسيد المسيح وبيان عناية الله تعالى به وحمايته له.
ليست المسألة إذن في التكفير بل في الذراع الأسود للتكفير الذي قرره الاستبداد الفكري والسياسي تاريخياً حول أن الكفر يهدر عصمة الدم، وبالتالي فإن من يختار موقفاً آخر يختلف في الاعتقاد فإنه يقامر بعنقه ويبيح للسلطان أن يستتيبه ثلاثاً ومن ثم أن يأمر بضرب عنقه، وهو كلام جد خطير ولو لم يكن هناك سلطان ولا والي ولا إمام، إذ ما أسهل أن تنتج الثقافة التكفيرية محتسبين مأجورين لتنفيذ هذه الأحكام بالبسالة المطلوبة ويحصلون على آلات القتل مأجورة أو غير مأجورة، إنما نقتلكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراًً.
فإلى أي حد يصح القول بأن الكفر أياً كان الكفر يستلزم هدر الدم، وبالتالي إقامة حد القتل على الكافر؟؟
وحتى لا نغرق في الأوهام فإن الكفر الذي قررت الشريعة أنه يستوجب القتل والقتال هو الكفر المتصل بالحرابة والعدوان، وهو حالة مفهومة تماماً حين كانت الأمة في حرب مع كفار قريش، وحين يخرج رجل كعبد الله بن خطل فيعلن خروجه من الإسلام ويلحق بمعسكر قريش ويغري قريشاً بحرب الإسلام ويكرس نفسه عدواً للأمة يمنح أسرارها لعدوها ، وحد الردة هنا الذي قررته الشريعة وطبقه الفقهاء يمكن فهمه تماماً إذا تذكرنا الطيار السوري المرتد بسام عدل الذي ركب طائرته قبل عشر سنوات ولحق بإسرائيل وخان دينه ووطنه وهو يمضي اليوم أيامه في السجون الإسرائيلية بعد سلسلة من الجرائم ارتكبها تجاوزت ما يقبله الصهاينة أنفسهم من خائن محترف.
أعتقد أنه بهذا المعنى يجب أن نفهم كل ما قالته نصوص الشريعة في حد الردة، وهنا ستجد أنك مؤيد بالنقل والعقل والشرعة الدولية وحقوق الإنسان في معاقبة مجرم من هذا الطراز.
ولكن تحرير حكم الردة على أساس أنه الاختلاف في الموقف الفكري يعتبر من وجهة نظري أبلغ إساءة لقيم الإسلام في الحرية والرحمة والعدالة، وهو يتناقض بالكلية مع سلوك المسلمين إبان صعودهم الحضاري يوم كان المخالف في الرأي يحظى بعناية الدولة المسلمة وحمايتها مهما كان اختلافه حاداً إذا لم يتجاوز الجانب الفكري والنظري، وهنا فمن المناسب أن نتذكر جهد خلفاء الإسلام الكبار كأبي جعفر المنصور والمأمون في تنظيم الندوات الصريحة مع الدهريين الذين أنكروا بالمطلق وجود إله وقالوا العالم مادة!! حين كانوا يعقدون المناظرات على شواطئ دجلة بإشراف وحضور مباشر منهم ليستمعوا إلى فقهاء الإسلام وهم يحاورون المخالفين بالحجة والبرهان دون أي آلة قهر أو قمع، وبعد ذلك كان المخالفون يعودون إلى بيوتهم ويمارسون حياتهم ويكتبون مزيداً من كتبهم وأفكارهم، وكان الخلفاء يشترون بالذهب ما يترجم من كتب اليونان والرومان مع أن الثقافة الوافدة هذه كانت لا تخفي وجهها المادي في كثير من الأحيان وتتحدث لغة مناقضة في الصميم لجوهر العقيدة الإسلامية!!
وهي حقائق دلت لها الآيات القرآنية المتضافرة في الكتاب العزيز: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟؟ لا إكراه في الدين، وعليه فإنه لا إكراه في التقوى ولا إكراه في العبادة، ولو شاء ربك آمن من في الأرض كلهم جميعاً.
ولكن هذه الروح من إعذار المخالف في الفكر ومعاقبة المخالف الذي يستخدم العنف توشك أن تنطمس في غبار الفكر التكفيري الذي يستبيح اليوم دماء المجتمع بأسره على أساس ظواهر نصوص تقتطع من سياقها ومواردها، وسأكتفي في مقالي اليوم في تقديم بعض الأمثلة السريعة مما يمكن قراءته كل يوم لفهم كيف تحولت مسائل حكم الردة من مسؤولية قانونية لحماية أمن الدولة إلى راديكالية متطرفة تبرر بسهولة استباحة الدماء والأعراض.
في مؤتمر الوسطية في عمان كانت هناك رغبة واسعة من إدارة المؤتمر للتوقيع على وثيقة تتضمن نصاً اعتبره المشاركون غاية في الوسطية والاعتدال وطلب إلينا أن نوقع عليه وهو حصيلة مؤتمر دولي انعقد في عمان بمشاركة مئات من علماء الشريعة في العالم وكانت العبارة التي اختارها المؤتمر واضحة لجهة وجوب إعلان قبول المذاهب الإسلامية الثمانية المتبوعة في العالم الإسلامي، -رغم تجاهل نحو سبعة مذاهب أخرى على الأقل لها أتباع بمئات الألوف- وهو ما اعتبر من وجهة نظر المنظمين خطوة رائدة في الانفتاح والتعاون حيث نص البيان بوضوح على أن من اتبع واحداً من هذه المذاهب الثمانية وهي الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية والزيدية والإباضية والجعفرية والظاهرية فهو المسلم الذي لا يجوز إخراجه من دائرة الجماعة ولا يجوز عليه أي اعتداء ويعصم بذلك عرضه ودمه وماله.
ولكن مع أن هذه العبارة اعتبرت نصراً للمشاركين في المؤتمر ، خاصة إذا أدركت أن المؤتمر يهدف إلى حقيقة مباشرة وهي حقن إراقة الدماء في العراق التي تراق على أساس مذهبي سني أو شيعي ولكن السؤال الكبير الذي ظل يؤرقني هو ما قاله لي رضوان المصمودي: مصيبة!! ولكن ماذا عن المسلم الذي لا ينتمي لأي من هذه المذاهب الثمانية؟ وماذا عن غير المسلم؟
بالطبع كان جواب الدكتور عبد السلام العبادي حاضراً والرجل كما هو معلوم راسخ القدم في الجانب التربوي والتعليمي والحواري وهو وزير أوقاف لعدة مرات وقال : يا دكتور لا وجه هنا لإعمال مفهوم المخالفة ولا يعني كلامنا أن هؤلاء معصومو الدم أن غيرهم مهدور الدم.
وفق قواعد إعمال مفهوم المخالفة في النصوص الشرعية فإن تعلق النص بغاية أو وصف يستلزم حكماً اختلاف الحكم الشرعي عند بلوغ الغاية، فإذا قال لا تأكل حتى تغيب الشمس أفاد حكماً جواز الأكل بعد غروبها، ولو قال لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم أفاد حكما جواز قتل الصيد بعد فك الإحرام، وحين يقول لا تقتل من دخل في هذه المذاهب الثمانية فالمقصود حكمًا أن من لم يدخل فيها فهو ليس أهلاً لعصمة الدم، على الأقل وفق اختيار الشافعية الذين أخذوا بالعمل في مفهوم المخالفة.
ويلزم القول هنا أن لا حجة في المفهوم إذا ورد المنطوق، وها هنا فإنه قد ورد المنطوق بأن الأصل عصمة الدم.
السؤال لماذا يتصرف الخطاب الإسلامي التقليدي في مسائل الدم والموت وكأننا لا نزال في غزوة ذات الرقاع، بين غورث ودعثور بن الحارث في الوادي الذي يحيط فيه أعداؤنا بنا بكل وجه وأن الأصل أن نطلق السهام والحراب على كل حركة من حولنا حتى نتجنب فاتورة الموت الصارخة اقتل أو تقتل!
عادة ما يتم الاستشهاد بالحديث المشهور وفيه أن أسامة بن زيد واجه رجلاً من المشركين فلما تمكن منه قال الرجل اشهد أن لا إله إلا الله ، فكف عنه أسامة ولكنه عاود بعد ذاك القتال حتى تمكن منه أسامة فنطق الشهادتين ثانياً ولكن أسامة لم يكف عنه بل قتله بالسيف وحين عاد إلى النبي الكريم فأخبره بما جرى، غضب النبي الكريم وقال أقتلته بعد أن قالها!! قال إنما قالها تعوذاً من الموت، فغضب الرسول وقال وهل شققت عن قلبه؟ وهل شققت عن قلبه؟ كيف تصنع إذا جاءتك لا إله إلا الله تحاجك يوم القيامة؟؟
ولكننا إذ نورد عادة هذا الحديث نواجه سؤالاً طبيعياً بعد ذلك وهو ماذا لو لم يقل هذه العبارة؟ وهو حال البلايين من البشر اليوم، هل يقتضي ذلك أنه مهدور الدم ولا يستحق نعمة الحياة؟؟
واضح أن هذا الحديث ورد في غبار المعركة وهناك يتعين أن يكون الأصل التهمة ولا خيار للعسكري وهو في موقع الحراسة في أن يكون مشرع البندقية تجاه كل قادم وأن يكون الأصل هو الاتهام والريبة والاستثناء هو حسن الظن، ولكن لا يسوغ على الإطلاق أن يكون هذا اللون من الخطاب هو الأصل الذي يحكم سائر علاقات المسلمين بغيرهم، ومن السذاجة تصور أننا نحتاج إلى هذه الكلمة لعصمة دم الآخر المخالف، بل إن القرآن الكريم ذهب هنا إلى أبعد من ذلك حين قالت الآية الكريمة : يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً، فالحديث هنا عن إيمانه أو عدم إيمانه وليس عن عصمة دمه أو استبقاء حياته.
إن خطاب النبي الكريم في عصمة الدم كان واضحاً وجلياً في آخر أيام حياته ولقائه مع الناس حين وجه خطابه بوضوح للعالم في حجة الوداع: أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام حرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب!!
لم يقل يومها يا أيها الذين آمنوا ولا يا أيها المهاجرون ولا يا أيها الأنصار ولا يا أهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان وإنما كان قوله: يا أيها الناس، وهو تأييد لخطاب القرآن الكريم : من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، وهنا نلاحظ أنه لم يقل من قتل مؤمناً أو مسلماً أو سنياً أو شيعياً وإنما قال من قتل نفساً.
وهكذا فإن الفكرة الشائعة من تلازم الكفر أو الشرك بضرب الرقاب ليست منطقاً إسلامياً بأي وجه من الوجوه وإنما هي حصيلة قراءة غبية لمقاصد الشريعة وخلط فاضح بين أحكام الحرب وأحكام السلام.
إنها محض ملاحظات نرسمها على هامش الحراك الثقافي الذي يتم في فضاء الصحوة الإسلامية، لم أنقلها هذه المرة من نصوص التراث على الرغم من حضوره بيننا وفعله فينا وإنما قرأناه هذه المرة من ثقافات متقاربة تتكرر وتتجدد كل يوم.