دعني أعترف لك من البداية بأنني تخرجت من كلية الشريعة بدمشق وأنا أعتقد أن ابن رشد الفقيه هو شخص آخر غير ابن رشد الفيلسوف، فقد كنا ندرس الرجلين (أو الرجل إياه) من خلال منبرين اثنين يتعذر الجمع بينهما على أنهما خطاب رجل واحد، فمن أين يمكن لخطاب الفلسفة المحلق نحو العقل الفعال والهيولى الأولى أن يلتزم القيود التقليدية المعروفة وفق منطق قف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا، وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في اتباع من خلف، ولو كان خيراً ما سبقونا إليه، حيث تتناوشه سهام التكفير وبيانات التضليل بمجرد أن يفكر بمخالفة الفكر السائد، على الرغم مما قد يقدمه خطاب النقد هذا من ضياء ونور.
ولم أكن أتخيل كيف يستطيع رجل كتب ما كتبه ابن رشد أن يحافظ على منبره أو على اسمه بين الفقهاء، بحيث يحظى باحترام الأحرار من المفكرين وفي الوقت إياه يحظى ببقاء عمامته فوق رأسه أو على رأسه تحت عمامته في وقت كان القتل على الردة أهون من شربة المي؟؟ ولكن الرجل قدم في تجربة حياته بكل تأكيد أن التنوير قادر على النهوض من المحراب والتألق على المنبر، ولعلها في العمق روح الحضارة الإسلامية في الأندلس التي كانت صورة واضحة لتمازج البدوي مع الحضري، وإسباغ نعمة الجمال في الفردوس الأندلسي على بطحاء الفكر، وهو ما يمكنك أن تقرأه في التمايز الواضح بين الشرقي والغربي من خطاب فلاسفة القرن السادس الهجري.
فابن رشد الفقيه كان رجل منبر ومحراب وأصدر عدداً من الأعمال العلمية الفقهية لأصحاب الاختصاص اكتملت بكتابه: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وهو أول كتاب منهجي يعتمد الفقه المقارن ويورد باحترام وتقدير حجة الرأي الآخر على الرغم من عدم رضاه عن خياره واعتراضه على حجته، وقد حدد فيما بعد منهجه الفكري بكتابه: مناهج الأدلة في علم الأصول.
وابن رشد الفيلسوف خاض غمار حرب طاحنة ضد التيار التقليدي في الإسلام، وواجه بشكل خاص الإمام الغزالي الذي كان يمثل الاتجاه المحافظ في الأمة في مرحلة بالغة الدقة والحذر، وأصل لرسالة وفاق بين العقل والدين وبالتالي كان يرفض منطق الدين المصادم للعقل، ويطالب برسالة واضحة للشريعة في بناء فلسفة متماسكة للعقل والإيمان.
بالتأكيد لم يكن ذلك بدعاً في شخصية ابن رشد، فسجل حياته الشخصية أيضاً طافح بالعجائب فهو الرجل الذي حظي بأعلى مكانة لدى الخلفاء الموحدين أبي يوسف وأبي يعقوب ولكنه كان أيضاً الخليفة الذي حظي بغضبهما وانتقامهما، وهو الرجل الذي فرضت كتبه على المدارس الفقهية ولكنه الرجل إياه الذي أحرقت كتبه فيما بعد في مهرجانات احتفالية، ودرس الفقهاء كتبه في الفقه وأحرقوا كتبه في الفلسفة، واعتبره الفقهاء هرطوقاً في العقيدة قائلاً بالتجسد والحلول على الطريقة النصرانية ولكن أساقفة باريس وأكسفورد وكانتربري في القرن الثالث عشر الميلادي حرموا بدورهم قراءة كتب ابن رشد وأحرقوها أمام عيون الجماهير، حتى على صعيد عمله الشخصي فقد كان الرجل أيضاً محيراً فقد اشتهر فيلسوفاً ثم عمل طبيباً للخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، ومن ثم عمل قاضياً له؟؟
وأهم ما في مذهب ابن رشد من المسائل التي اتهم من أجلها بالزندقة ما يأتي: قدم العالم، وعلم الله وعنايته، وكلية النفس والعقل، والبعث. وعادة ما تتم الإشارة إلى مواقفه هذه في الدلالة على أنه يخالف الشريعة وبالتأكيد فإن هياج الدهماء وإحراقهم كتبه في صخب احتفالي كان وراء ذلك، ولكن ابن رشد لم ينكر العقيدة وإنما فسرها على وجه جعلها تتمشى مع الفلسفة.
ففي مسألة قدم العالم لم ينكر ابن رشد أنه مخلوق، ولكنه جاء برأي في الخلق خالف فيه المتكلمين بعض المخالفة. فالخلق عنده لم يكن دفعة واحدة، أي مسبوقاً بالعدم، ولكنه خلق متجدد آناً بعد آن، به يدوم العالم ويتغير؛ وبمعنى آخر: هناك قوة خالقة تفعل باستمرار في هذا العالم وتحفظ عليه بقاءه وحركته. والأجرام السماوية على وجه خاص لا توجد إلا بالحركة، وهذه الحركة تأتيها من القوة المحركة التي تؤثر فيها منذ الأزل؛ فالعالم قديم ولكنه معلول لعلة خالقة ومحركة، والله وحده قديم لا علة له.
أما فيما يختص بعلم الله فإن ابن رشد يأخذ بذلك الأصل الموضوع الذي قالت به الفلاسفة من قبل وهو “أن المبدأ الأول لا يعقل إلا ذاته”، ولا بد أن يكون الأمر كذلك عند هؤلاء الفلاسفة، حتى يحتفظ المبدأ الأول بوحدانيته، لأنه إذا عقل كثرة الموجودات صار متكثراً في ذاته، وصار دليلاً على قدمها، وإذا دققنا النظر في هذا الأصل فإن الموجود الأول يجب ألا يعدو حدود ذاته لأنه لا يعقل غير ماهيته، ويترتب على هذا أن تصبح العناية أمراً مستحيلاً. وذلك هو المأزق الذي كان يجتهد المتكلمون أن يدفعوا الفلاسفة إليه، وهذه بالطبع هي رؤية المعتزلة الذين كانوا يصرون على طرو الصفات على الله ما خلا صفة الوجود، وذلك إمعاناً في التنزيه والتوحيد في معرض ردهم على الدهرية وليس في معرض محاباتهم لها.
ولكن أكثر ما يعنيني في ابن رشد هو أنه اكتمال لرسالة أستاذه وشيخه ابن طفيل ، الذي كان أول من قدم لوحة فنية مكتملة الأجزاء على مركب الأدب للتوفيق بين العقل والدين، من خلال الرائعة الخالدة حي بن يقظان، التي عالجت أمرين في غاية الأهمية كنا نقرؤهما بعمق في الفكر الاعتزالي وهما اتحاد رسالة العقل والدين، والإعلان عن رسالة العقل نبياً، كما هي في صلب تفسير عبد الجبار الهمداني لآية الإسراء وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً.
وما حرره ابن طفيل في رسالة حي بن يقظان من وفاق العقل والدين في حديقة الأدب والجمال، حققه ابن رشد على صخرة النقد الصارمة، ومنذ ذلك التاريخ فإن رائعة ابن طفيل ترجمت لأكثر من ثلاثين أدباً عالمياً وسخرت في خدمة أغراض مختلفة ولكنها ظلت تشير بأصبع مضيئة إلى التجربة الأولى التي قدمها ابن طفيل في خدمة الحقيقة والعقيدة.
ابن رشد وابن سبعين وابن عربي وابن الفارض والحلاج وابن حبش السهروردي أسماء كبيرة في سماء الفكر الإسلامي نتناولها اليوم بالدراسة والثناء والدراسات التأويلية المضنية، ونستدل من خلالها لما عرفته الحضارة الإسلامية من تنوع وغنى ولكن علينا في الوقت إياه أن نقول إن هؤلاء المجددين عاشوا كفاحهم ورسالتهم على وقع الأخطار المزلزلة ورأوا بأعينهم كيف كانت كتبهم تحرق باسم الرب، وكيف كان أتباعهم يطاردون ويشتتون وأفكارهم تعامل في حلقات الفقهاء معاملة السم الناقع، ولو عاشوا في زماننا لنالوا نصيبهم الوافي من الاتهام بالماسونية والصهيونية والخيانة والامبريالية وآخر ما يتوفر في قاموس الشتات العربي اليوم من لغة الإقصاء ولعنة الريب.
اليوم تخصص الشام حياً كاملاً من أحيائها للشيخ الأكبر محي الدين ين عربي، ويعده أهل الشام أبرك أحيائهم وأكثرها صلاحاً، وتقضى عند ضريحه الطاهر النذور والكفارات، ويدخل الفقهاء ضريحه باحترام وإكبار، مع أن كتب التاريخ الإسلامي طافحة بفتاوى الزندقة والتكفير التي نالها الرجل من كل حدب وصوب، وهو يقول: ولكل عصر واحد يسمو به وأنا لهذا العصر ذاك الواحد
من وجهة نظري فإن ابن رشد تكمن فرادته في أنه لم يشأ أن يمضي في القطيعة مع التيار التقليدي إلى الغاية، كما لم يشأ أن يعلن نفسه ناسكاً لاهوتياً زاهداً، بل أحب الحياة واقترب من السلطان وعمل له وأكل على موائده وأصاب وأخطأ ونجح وأخفق وجامل وتأول واستخدم أدوات السلطان الممكنة في نشر رسالته، وأخذ أجره من كف السلطان طبيباً وقاضياً، وأصر أن يبقى بعمامته على منبره على الرغم من سماعه لفتاوى التفسيق والزندقة الصادرة بحقه وكان مؤمناً بيقين أن التنوير الحق هو ما يحضر من المنابر والمحاريب في تكامل بين العقل والروح والدولة والفرد وهو ما ترسمه أعمال الأئمة الأربعة المجددين، ابن سينا والفارابي في رسالة الفرد والدولة وابن طفيل وابن رشد في رسالة الروح والعقل الذين قدموا بتكاملهم الرباعي دورة الحضارة الإسلامية المتكاملة التي رسمت المنظومة الفكرية المتكاملة لقيام الأمة ونهضتها.