ليس هذا المقال مغازلة لحلب في عرسها الإسلامي الكبير الذي يملأ اليوم جبين السوريين بالبهجة، ولا هو رصد شامل لتاريخ حلب، إنها بكل أمانة قراءة وفاء لرسالة حلب في تاريخ التنوير الإسلامي وهي قراءة أشعر أنها تغيب اليوم في غمار ما تشهده المنطقة العربية من امتداد للتيار الظاهري، ولست أدري إن كان هذا التخوف هو الذي جعل السيد أكمل الدين إحسان أوغلو الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي يتغيب عن حضور الافتتاحية ويوفد من يمثله، وهو أمر لا يمكن أن نتقبله بدون عتب ومرارة، مشفوع بتساؤل كبير هل يعرف الأمين العام حقاً تاريخ حلب في التنوير؟ وهل يوجد عذر يمكن أن يبرر تخلفه عن حضور ذلك الواجب على الرغم من أن الرجل له قدم راسخة في الأخوة مع سوريا وهو عضو في مجمع اللغة العربية ومن المستحيل أن يكون ابن تركيا لا يعرف وزن حلب في التاريخ والحاضر.
حين بدأ سيف الدولة الحمداني المتوفى 356 يطبع حلب بهويتها التاريخية في قرن الحضارة الإٍسلامية القرن الرابع الهجري الذي أرخ له آدم متز فإن الرجل جعل من حلب عاصمة للثقافة العربية والإسلامية، وإلى حاضرته أوى الفارابي الفيلسوف الطروب القادم من قازخستان شمال آسيا الوسطى ليؤسس للفن الإسلامي الغنائي وفق روح شاعرية متوثبة حيث رسم حركة الكون، من خلال إرهاص متقدم لما أصبح يسميه الحكماء فيما بعد لغة العالم، واستقرت ألحانه السبعة دستوراً للموسيقا العربية الخالدة وبالتالي منبعاً للقدود الحلبية المطربة، وهو الفن الذي (صنع بسحر) صبا ونهاوند وعجم وبيات وسيكاه وحجاز ورصد.
ولكن الفارابي لم يكن إلا شاهداً على مجد المعرفة ومغنياً لها إذ تألقت في حاضرة سيف الدولة واستقطبت الأدب والفن من العالم الإسلامي وكرست نبوغ المتنبي وأبي فراس وابن خالويه وأبي الفرج الأصفهاني وغيرهم من أئمة الفكر والمعرفة المتنوعة الغنية.
يقول شلمبوكر في كتابه عن القائد البيزنطي نيكفورفوكاس متحدثاً عن سيف الدولة: « هذا القائد المجاهد ـ سيف الدولة ـ لم تصرفه المعارك عن أن يجعل من حلب بيئةً خصبةً للاداب والفنون والعلوم، فقد فتح قصره لكل فنان موهوب وأديب فذ فتوافدوا عليه من جميع الاطراف: من العراق وإيران والشام وبيزنطة وفينيسيا وجنوى. وكان يستمع إلى الشعراء ويتحبب إلى الكتّاب والمصورين، ويمنح المؤرخين الشيء الكثير من عطاياه فيعود هؤلاء إلى بلادهم حاملين إلى شعوبهم صورة رائعة من خلق الرجل العلمي وشخصيته العجيبة ».
ولا أشِك أبداً أن الروح التي كانت ترقد في ضمير سيف الدولة استمرت بعده في ثقافة حلب في التسامح والتنوير، وحين شيد مشهد السقط كان يريد بذلك أن يحيي الجانب الإيجابي من ثقافة المظلومية والتفجع التي كان لا بد منها في صناعة تربية الجهاد في مواجهة التهديد الرومي المستمر، وبالتالي أسهمت في توفير مكان آمن للمستضعفين والمضطهدين من طوائف صدرت فيها فتاوى التكفير والتفسيق وهام أتباعها في الأرض، ولم تجد حلب حرجاً أن تحتضن فيما بعد سائر طوائف الأمة من سنة وشيعة وصوفية وسلفية، وعرفت هجرات متعددة احتضنت فيها الناجين من المظالم الصليبية ومن الحروب المغولية، وحين ضاقت الدنيا على الأرمن في مواجهة مذابح الموت الأسود كانت حلب صدراً حنوناً أوى إليها الأرمن ووجدوا في فيئها الأمن والأمان ولم تشأ حلب أن تفرض عليهم ما لا يريدون، ووفرت لهم السبيل ليصبحوا قوة اقتصادية رائدة يأكلون من خيراتها ويشكرون الله.
ولكن الدور الأبرز لحلب كان في إطلاق رسالة التنوير التي حملها الشيخ عبد الرحمن الكواكبي نهاية القرن التاسع عشر حين ردد صيحتيه الكبيرتين في مسمع العالم الإسلامي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، وأم القرى، ولم تكن رسالته تحتمل أي لون من المواربة أو المخاتلة فإعلانه أم القرى رسالة وحدة جامعة للأمة كان يعصف فيها بشيوخ السلاطين الذين يزخرفون أوهام الإقليمية والقطرية والمحلية مكان الوحدة الجامعة، أما صوته العالي الذي أطلقه في كتابه الثوري طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد فقد كانت بمثابة إعلان واضح عن المواجهة ضد الاستبداد وثقافته التي كان وعاظ السلاطين يركمونها بركام وجوب السمع والطاعة لمن يلي أمر الأمة ولو أكل أموالكم وضرب أبشاركم، فإنه ظل الله في الأرض، ويوم بلا أمير شر من أربعين عاماً في ظل إمام جائر!!.
لم تكن رسالة الكواكبي تحتمل المجاملة أو المداورة فالمكتوب واضح من عنوانه، ولا أظن أن السلطان يحتاج أن يقرأ أكثر من عنوان الكتاب حتى يبدأ بمطاردة عبد الرحمن الكواكبي بعد أن سلط عليه جيشاً من الناقدين الذين يهاجمونه ويكفرونه ويفسقونه ويغمزونه ويهمزونه ويلمزونه لوجه الله ودون انتظار عوض، واشتهرت مواقف أبي الهدى الصيادي في إصدار البيانات المتلاحقة ضد الكواكبي كما هو حال كل من يحمل رسالة تنوير في مواجهة التخلف والاستبداد.
وعلى الرغم من الكاريزما التي كان الكواكبي يحملها والمنابر الإعلامية التي كانت تقدم له ولكنه وجد نفسه مضطراً للهجرة إلى مصر حيث يمكنه أن يحمل رسالته إلى أعلام التنوير من دون أن يبطش به السلطان، وهكذا فقد قدمت حلب مرة أخرى أكثر صيحات التنوير تأثيراً وفاعلية، وأصبح خطاب الكواكبي ملهماً لكل رموز التحرر والتنوير في الثقافة المصرية.
وفي عام 1902 وقف محمد رشيد رضا وهو أحد رواد النهضة الذين أهدتهم الشام إلى مصر ليسهموا في صناعة المشروع النهضوي الإسلامي، وقف ليقول:
أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال الإصلاح الإسلامي وعالم عامل من علماء العمران وحكيم من حكماء الاجتماع البشري ألا وهو السائح الشهير والرحالة الخبير السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الحلبي، مؤلف كتاب «طبائع الاستبداد» وصاحب سجل جمعية أم القرى الملقب بالسيد الفراتي. اختطفت المنية منا بغتة هذا الفاضل الكريم والولي الحميم»
كان الكواكبي أول صوت صارخ في برية الاستبداد المتدثرة بدثار الدين والتي لم تكن تفهم الإسلام إلا ثيوقراطية تتلفح برداء الغيب بدأت مع المنصور الذي قدم نفسه للعالم على أنه ظل الله في الأرض في انحراف واضح عن منهج النبوة الذي كنا نقرؤه في سيرة الصديق: إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق.
لقد أنجز ثورته على الاستبداد بشقيه السياسي والديني، وإذ رفع صوته بالتمرد على الثيوقراطيا وحق الملوك الإلهي في الحكم فإنه كان يؤصل للعودة إلى منطق الإسلام الأول: وأمرهم شورى بينهم رافضاً منطق الاستبداد والاستعباد، وبالتالي لم يكن لك أن تستمع إلى علي عبد الرازق في الإسلام وأصول الحكم، وهو أول هيكلة للدولة المدنية في الإسلام لولا كفاح الفتى الحلبي عبد الرحمن الكواكبي.
حلب مرة أخرى في ضمير التنوير الإٍسلامي في العالم، يعيش فيها التياران متجاورين: الكواكبي والصيادي، ومن حق كل منهما أن يقدم نفسه للحياة، ولا أشك أبداً أن شباب الصحوة الإسلامية يرقبون الكواكبي من جديد بين الشهباء والنيرب، ليقرأ درس الحرية والتنوير في احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية.