أي المكاسب أفضل؟ سؤال طرحه علماء الشريعة في المفاضلة بين التجارة والصناعة والزراعة، حملتني إلى ظلاله رائحة الأرض وهي تستقبل الماء القادم من السماء حديث عهد بربه والذي سعدت به البلاد خلال الأيام الماضية.
فالتجار يقولون إن النبي الكريم مارس التجارة وأنها بذلك أفضل المكاسب وأن الجالب مرزوق والمحتكر ملعون، والذين فضلوا الصناعة احتجوا بأن داود وسليمان ونوحاً كانوا من الصانعين، وكفى به منزلة وذكراً، وأما الذين قالوا بأنها الزراعة فقد قالوا هي مهنة آدم، وإن من فضلها ومنزلتها أنها حقيقة بالتوكل فالتاجر تتعلق آماله بأحكام التجارة وقوانين التصدير والتوريد، وأما الصانع فإنه يترقب قانون الجمارك والضرائب والتسويق، ولكن المزارع وحده هو من يضع البذرة في الأرض ويتوكل على الله، وبذلك فإن الزرع أطيب المكاسب لأنه أشبهها بالتوكل الصحيح على الله.
ولكن ما الذي أصاب المشهد الزراعي في سوريا، وكيف عطشت الأرض من بردى إلى العاصي إلى قويق الذي أصبح في النهاية أثراً بعد عين؟؟
ولكل نعمة شكر، وشكر الغيث يمنعك أن تبقى متفرجاً أمام افتراس الصحراء للمدينة ويقف بك موقف المذنب العاثر في التفريط بآيات كريمة يدعوك الإسلام إليها في إطار الإحسان إلى الإنسان والحياة، كقوله تعالى: وقولوا للناس حسناً ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
إن الطبيعة تمضي في رسم لوحة الخلود وفق البرنامج الإلهي للحياة، ولكن أين هو دور الإنسان في ذلك كله؟ لم يقبل الإسلام من المسلم أن يكون متفرجاً على ما ترسمه لوحة الطبيعة في الحياة بل يتعين أن يشارك في بنائها وغرسها وموقعها، وأصبحت رسالة المؤمن في زرع العرق الأخضر جزءاً من النسك الذي يتقرب به إلى الله.
أما السنة النبوية فقد جاءت حافلة بالوصايا الكثيرة في الإحسان إلى الحياة واحترام البيئة وتشجيع الزرع والرفق بالحيوان، وهي مقاصد يمكن التماسها في مئات الوصايا النبوية التي تزخر بها كتب السنة المشرفة قال: ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس، وفي رواية أخرى: ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة
ثم يمضي النبي الكريم ليذكر في وعد حق أن ثواب هذا العمل الصالح لا ينتهي بموت ابن آدم بل هو موصول ما دام الخير الذي أحدثه قائماً، وفي ذلك يقول : سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته
بل إن النبي الكريم دعا إلى جعل المقابر التي هي محل لذكر الموت حدائق تنعم بالعرق الأخضر وينزل الله فيها رحماته وإحسانه وبره، وتمنح المدينة الدفء والجمال والخصب إلى جانب كونها موعظة للموت وذكرى للمؤمنين، وكان يملأ المقابر بالآس وهو وعي بيئي لو مضى في غايته لكانت المقابر اليوم أجمل مرافق البلد وأكثرها تحفيزاً للحكمة والتأمل والفكر.
وجرى عمل الفقهاء على اعتبار إخصاب المقابر بالعرق الأخضر لوناً محموداً من السنة المطهرة، ومع أنه تم ربط المسألة بجانب غيبي فإن النبي الكريم مضى على اعتبار ذلك سنة دائمة، وهو منهج تعرفه الشريعة حتى اشتهرت في ذلك الحكمة الشهيرة : إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها!!.
الشجرة في القرآن آية ونعمة وبركة ، وبها شبه الله نوره العظيم بقوله يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ، وعندما وصل النبي الكريم إلى المدينة المنورة أطلق حملة كبيرة للتشجير والغراس وشكل ما يمكن تسميته أول وزارة زراعة في الدولة الإسلامية يوم كلف طلحة بن عبيد الله أن يحفر الآبار بالمدينة وبالفعل فقد حفر فيها أربعة وخمسين بئراً ، وبوسعك أن تتصور إلى أي مدى أطلق ذلك النشاط الزراعي الأمر الذي حول المدينة المنورة إلى رقعة خضراء في حياة النبي الكريم ، وفي الواقع فإن قليلاً من الباحثين من يشير إلى إصلاحات النبي الكريم على صعيد التشجير ورعاية الزراعة والحفاظ على الشجرة ، وسبب ذلك كما هو واضح أن المطلوب أن يشار إلى عطاء النبي الكريم في المقام الأول في إنجازاته الكبرى في وحدة العرب وخلاص العالم من المظالم والشرور قبل التنبيه إلى إصلاحاته الأخرى على صعيد الإدارة والتنمية ، إذ لا يتسع ذلك للحديث عن النبي الكريم على أنه رئيس بلدية عظيم !! ولكن حديثنا هنا ينبغي أن يحملنا على توضيح ذلك.
وفي الخبر أن سلمان الفارسي جاء إلى النبي الكريم يذكر له معاناته في الرق فامره النبي الكريم أن يكاتب على تحرير نفسه فكاتب سيده على زرع ثلاث مائة نخلة يزرعها له بالعفير ،وكانت هذه المكاتبة مناسبة يدعو فيها الرسول الكريم إلى التشجير قال سلمان:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “أعينوا أخاكم”. فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين غرسة، والرجل بعشرين غرسة، والرجل بعشر، حتى إذا اجتمعت إلي ثلاث مائة ودية قال رسول الله : “اذهب يا سلمان فازرعها لها فإذا فرغت فائتني فأكون أنا أضعها بيدي”. قال: فعفرت لها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الغراس ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها غرسة واحدة.
إنها إرادة واضحة في إطلاق الأرض الخضراء على أكبر رقعة ممكنة وهو ما حققه الإسلام على الأرض، وهو المعنى الذي تحدث عنه النبي الكريم مراراً عن غوطة الشام المباركة وهي الغوطة التي افترسها (الباطون) حتى النهاية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
previous post