شهد القرن العشرون سلسلة حركات إسلامية تولت الإجابة على أسئلة النهضة وشروطها, تناغمت وتواصلت في أطراف العالم الإسلامي
واتخذت طابعاً تنويرياً أوصى بدور أكبر للعقل في فهم النصوص وتأويلها, وتوضحت ملامح التنوير في الخطاب الإسلامي من خلال طرح الإسلام رسالة تسامح ومحبة, يصدق ما بين يديه من النبوة والحكمة, ويحترم كفاح الإنسان من أجل العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي وقت واحد تقريباً ظهرت حركة محمد عبده وجمال الدين الأفغاني في مصر وعبد الرحمن الكواكبي في سورية والحركة المهدية في السودان, واكتمل ذلك بأعمال مالك بن نبي في الجزائر ومحمد إقبال في باكستان, والطاهر بن عاشور في تونس, وفيما بعد محمد الغزالي في مصر, وجودت سعيد في سورية, كما ظهر عدد من المشاريع التنويرية التي تشكل ظاهرة الصحوة الإسلامية الجديدة.
وفي هذا السياق يمكن فهم مشروع الوسطية الذي أطلقه مفكرون إسلاميون قبل سنوات, وتنهض به اليوم دمشق ليكون أول تجربة رائدة من نوعها حيث تلتقي قيادات فكرية واجتماعية من العالم الإسلامي للبحث في إطلاق أوسع حاضنة فكرية لتيار الوسطية في العالم الإسلامي, بحيث يتحول التنوير الذي هو اليوم تيار ظاهر وروح عامة إلى مؤسسة تتولى اكتشاف الخطاب التنويري الوسطي وتقديمه خطاباً رائداً للتعريف بالإسلام في العالم.
وعلى الرغم من أهمية هذا المنطلق الفكري للوسطية, فإن ما حتم تسريع الجهود في هذا السبيل هو تلك التطورات المتسارعة التي شهدها العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة, فقد تفجرت العلاقة بين الإسلام والغرب نتيجة مباشرة لمظالم الغرب وأخطاء السياسة الأمريكية في انحيازها الكامل للمشروع الإسرائيلي المدمر للأمة العربية والإسلامية, الأمر الذي شد من أزر قوى التشدد والتطرف وبالتالي أسهم بشكل مباشر في فصم العالم إلى فسطاطين متناقضين لا يتصور أي جمع بينهما.
وهنا تتجدد الحاجة إلى تكوين تيار وسطي يؤمن بثوابت الإسلام الكبرى ويطلق رسالة التجديد والتنوير على أساس من المصالح العليا للأمة الإسلامية.
يتأسس الفكر الوسطي على قاعدة عريضة رسمها القرآن الكريم( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً), كما وجد الإسلام في رسالته الأولى سبيلاً للتكامل مع كل سعي إنساني مبرور أنّى كان منطلقه في الجغرافيا أو التاريخ أو الحاضر.
وهي حقيقة عبر عنها القرآن الكريم يقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
إن تأسيس حاضنة صحيحة وعملية للفكر الوسطي المعتدل الذي يرى في الإسلام مشروع تكاملْ مع السعي الإنساني وليس نقيضاً له ,ومسؤولية اجتماعية ودينية, ويتحمل مسؤولياته في مواجهة التطرف والتعصب سواء ظهر عبر المشروع الصهيوني المدمِّر أو الحركات الخوارجية المتطرفة التي استحلت قتل العباد والبلاد في سبيل إنجاز أفكارها السياسية.
لقد واجهت الوسطية الإسلامية الأولى جملةعقبات, وإلى جانب المواجهة مع التطرف وتبعاته, فقد أطلق فقهاء الأمة جملة من المواثيق الواضحة بهدف حماية المسلم في دمه ماله وعرضه ومنعت التعرض لأهل القبلة مهما ظهر منهم الاختلاف في الرأي, في حين نظمت علاقة المسلم مع أبناء الأديان الأخرى على قاعدة الحوار والاحترام مع أهل الكتاب وسَنت في نظرائهم سنة أهل الكتاب, ووفرت للمختلفين دينياً وثقافياً فرصة المشاركة في بناء الدولة والحياة إلى الحد الذي مكنهم من المساهمة بوضوح في بناء الحضارة الإسلامية.
إن الوسطية في العالم الإسلامي هي اليوم الأكثرية الصامتة التي يتشكل منها المسلون, ويجد المسلم نفسه بالفطرة رافضاً للتطرف والتعصب, ومن خلال عمومات النصوص في القرآن والسنة فإن المسلم قادر على فهم معنى قول الله سبحانه: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
ولكن يجب القول إن التيارات المتشددة تولت تقديم أدلة من ظاهر النص شوشت على المسلمين صفاءهم الأول وأعادت الجدل جذعاً في مسألة العلاقة بالآخر المختلف فكرياً حيث يتم على سبيل المثال إطلاق القول بمظاهر كثيرة من الشرك في الأقوال والأفعال ثم يتولى فريق آخر تقديم تأويل ظاهري للنص فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم, وبذلك أريقت دماء وأرواح كثيرة وشهد العالم الإسلامي ارتفاعاً غير مسبوق في إراقة الدماء وانتهاك الحياة وقدم الأدلة لأعداء الأمة لوصم هذا الدين بالعنف والجبر والكراهية.
إن الوسطية ليست موقفاً ضبابياً غائماً مذبذباً, ولا هي انطماس البصيرة بحيث تباع الهوية في سوق المصالح, ولاهي أن يكون المرء إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنا وإن أساؤوا أسأنا, ولا هي أن تصلي مع علي وتتعشى عند معاوية, بل هي قراءة دقيقة لروح الإسلام ومقاصده واختيار ما هو أحسن وأنفع للأمة, على قاعدة ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن, أو كما عبر عنه إمام الفقهاء أبو حنيفة: ترك القياس والبحث عما هو أوفق للناس.
إن الاختباء وراء ألفاظ عامة, والمبالغة في مجاملة التيارات المتطرفة أو المتفلتة لن يحل شيئاً من المشكلة, وسنستمر في ترحيل الأزمة, وسنكون عاجزين عن حلها, ومن المؤكد أنه لن يمكننا حل الأزمة إلا عندما نواجهها بشجاعة وجرأة ونشير بملئ الفم إلى مواطن التخلف بأسمائها وأعيانها, ونخوض المواجهة ضد ذلك الانحراف.
إن لقاء دمشق لقادة الفكر الوسطي في المجتمع الإسلامي يتحمل مسؤولية الربط بين نشاطات التواصل والتكامل بين الحركات المعتدلة في البلاد العربية التي تتبنى الخطاب الإسلامي ولا ترى فيه نقيضاً لما أنجزه الإنسان في سعيه الحضاري, وبالتالي لبناء شبكة علاقات تكاملية لتعزيز صوت الاعتدال والتسامح.