مقالات

د.محمد الحبش- تقبل الله طاعاتكم .. وكل عام وأنتم بخير 12/10/2007

سمي يوم الجائزة, وحين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قالوا يا رسول الله أهي ليلة القدر قال لا ولكن أما رأيتم أن العامل إذا أدى عمله استحق أجره فكذلك الصائم إذا أدى حق الله عليه استحق أجر الله وفضله وعطاءه,
وهو يوم الجائزة وفيه قال الرسول الكريم إذا كان آخر يوم من رمضان بعث الله الملائكة على أفواه السكك ينادون العباد هلموا إلى رب كريم يلهم الخير ويثيب عليه الجزيل, وهو يوم الفرحة التي أخبر النبي الكريم أن للصائم فرحتين فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه.‏
وظائف العيد كثيرة, ولكن أهمها يبقى في ضمير المؤمن هو صلة الأرحام , وصلة الرحم هذه باب من الخير ضيعناه في غمار مشهد العولمة الجديد الذي تمكن من إعادة إنتاج العالم المادي رقمياً, ولكن عجز عن التعامل مع الروح, وانتبذ من عالم الروح على شقاق, وانطفأت إذن في قلبه جذوة الأشواق وخمدت عنده الأذواق.‏
والنبي الكريم كان في الواقع أروع المثل في صلة الرحم, وحين كان أقاربه في مكة يدبرون له المكائد وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يخرجوك أو يقتلوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين, كان هو صلى الله عليه وسلم يسعى في وصل أرحامه, ويخاطبهم بحنان: إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم, وكان يقول لهم : ما أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى, ولكنهم كانوا يحاربونه في كل وجه, وينهون عنه وينأون عنه, حتى صار وصاروا على حد قول الأول: أريد حياته ويريد قتلي فأترك ما أريد لما يريد.‏
كان أكثر أعداء النبي حقداً وبغياً عمه أبو لهب, فقد كان يتعقب خطواته حين يلتقي بمواسم العرب فيقول لمن استمع منه لا يغرنكم هذا عن أنفسكم فإنه مجنون تأتيه رئيا الجن, وأنا عم الرجل ونحن سنأخذ على يديه فلا يغوي الناس بذلك, وكان الناس يقولون عم الرجل أدرى به ولو كان لدى محمد خير لانتفع به أهله!! وهكذا كان أبو لهب أشد من يصد عن سبيل الله من المشركين حتى نزل فيه صراحة نص القرآن الكريم تبت يدا أبي لهب وتب.‏
لا أظن القارئ يحتاج لتذكير حول الدور السلبي الذي قام به أبو لهب في الصد عن سبيل الله, وكذلك امرأته حمالة الحطب وابناه عتبة وعتيبة وكذلك بنته درة التي كانت استمراراً لسلوك والديها, وقد استمرت هذه العداوة إلى أن هلك أبو لهب في السنة الثانية من هجرة الرسول الكريم.‏
حين هلك أبو لهب ترك بنتاً واحدة هي درة بنت أبي لهب وكان أخواها عتبة وعتيبة قد هلكا قبل سنين, وهكذا وجدت درة نفسها وحيدة في مكة, وبعد طول تردد حزمت حقائبها وتوجهت صوب المدينة!‏
كان وصولها المدينة مشهداً عجباً, فلا يوجد في الدنيا أقطع لرحمه من أبي لهب وآل أبي لهب, وها هي اليوم درة المسكينة تلقيها الأقدار عند محمد في المدينة, وحين رآها لم يكن يحتاج إلى من يذكره بأيامها الفاجرة في حرب الإسلام ولكن الرسول الكريم آواها على الفور وأحسن نزلها وأكرم وفادتها وأسكنها في أهل بيت يحسنون إليها, وكان يتفقدها برعايته وحنانه.‏
ذات يوم جاءت درة بنت أبي لهب شاكية باكية إلى رسول الله وقالت: يارسول أما ولد الكفار غيري?? قال لها النبي الكريم: مه! مالك يا ردة, قالت يارسول الله إني ما سرت في درب من دروب المدينة إلا تلقتني عجائز الأنصار بقولهن هذه درة بنت أبي لهب وأمها حمالة الحطب, ما تغني عنها هجرتها?‏
كان اتهاماً واقعيا ليس فيه من المبالغة في شيء فتاريخ أبي لهب وأم لهب ليس تاريخاً مشرفاً والقوم لا يقولون أكثر مما في القرآن في أبي لهب وأم لهب, وهي حقائق يعرفها الناس جميعاً وكانت درة شريكاً فيها, وكان في وسع النبي الكريم أن يقول لها يا درة.. وما أذكر من أبيك وأمك, لقد حاربا الإسلام بكل ما أوتيا من قوة, وماذا تنتظرين من الناس أن يذكروهما وقد ذكرهما الله بأكثر من ذلك? نعم, كان في وسعه أن يقول هذا ولم يكن هذا نكوصاً عن مبادئه الكريمة وإنما هو جزاء وفاق لما ارتكبه الزوجان الشقيان من قطيعة رحم وإثم وبغي.‏
ولكن الرسول الكريم تأمل في وجه درة وقال لها لا تحزني يا درة, وإذا قمت في المسجد بين الناس فقومي بحيث أراك, وحين وقفت درة من غدها بين الناس, قطع رسول الله خطبته بحزم وقال غاضباً: أيها الناس… ألكلكم نسب وليس لي نسب? أيها الناس .. ألكلكم رحم وليس لي رحم?? قال عمر أغضب الله من أغضبك يا رسول الله, ما الأمر? قال غاضباً: هذه درة بنت عمي يؤذيني ما آذاها ويريبني ما رابها, فمن نال منها فقد نال مني, ألا كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي, وان شفاعتي تطال <حي حا وصدا من العرب> وما زال يدعوهم إلى صلة الرحم ويشير إلى درة حتى عقد لها تاج كرامة من أهل بيت النبوة!!‏
وحين نزل إلى الصلاة كان قد أعد خطة رشد فأرسل من فوره إلى دحية بن خليفة الكلبي وكان أجمل الأصحاب وجهاً وكان جبريل الأمين يأتي على صورته إلى النبي الكريم, وكانت درة جميلة ملاحة, وقد سمي أبوها من قبل أبا لهب لشدة احمرار وجنتيه كأنهما اللهب, ودعا الرسول الكريم دحية ودرة وعقد لهما بنفسه, وأقام لها حفل زفاف تحدثت به العرب.‏
لم يكن ملوماً لو تجهم في وجه درة بعد تاريخ من القطيعة والصدود, لم يكن ملوماً لو قال لها إن ما أنجزه والداك من الشر أكثر من أن يحتمله أحد, وأن ذكره بالسوء هو قرار إلهي حكيم جاء بنص القرآن!!‏
لم يقل شيئاً من ذلك وإنما فسح صدره للعفو والمغفرة.‏
لقد كان قومه أكثر الناس صدوداً عن رسالته وقال الله تعالى وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون, ولكن بعد مرور أربعة عشر قرنا فإن نظرة واحدة للمكانة العظيمة التي يحظى بها أهل البيت وقبيلة قريش في ضمائر المسلمين في الأرض تقدم لك الجواب عن السؤال القديم كيف أحسن الرسول الكريم إلى أرحامه على الرغم من إساءتهم إليه, وهو المعنى الذي أشار به على رجل من أصحابه كان قد سأله بحيرة: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني, وأعطيهم ويمنعونني, وأحسن إليهم ويسيئون إلي, فهل علي من حرج أن أكافئهم? والمقصود بالطبع أن أعاملهم كما يعاملونني, فقال النبي الكريم: فمه? أي ما الفرق بينك وبينهم? ولكن صل من قطعك وأعط من حرمك, وأحسن إلى من أساء إليك, ولا يزال لك عليهم من الله ظهير حتى ينصرك الله بنصره.‏
إنها دعوة للقراء الكرام أن نتفقد في هذا العيد أرحامنا لعل الله يكتبنا في الواصلين على منهج الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم, وكل عام وأنتم بخير.‏

Related posts

د.محمد حبش- أوروبا…. الطريق إلى الإسلام 16/2/2007

drmohammad

د.محمد حبش- دماء في سامراء 3/3/2006

drmohammad

الدكتور محمد حبش- في مواجهة التكفير 16/6/2006

drmohammad

Leave a Comment