على هامش المنتدى العالمي للوسطية
انتهت في عمان أعمال مؤتمر الوسطية الدولي الذي انعقد مطلع الأسبوع الماضي, حيث اجتمع فيه أكثر
من مائة وخمسين كاتباً وباحثاً في قضايا التنوير الإسلامي من مختلف البلدان العربية والإسلامية.
الافتتاح الذي شارك فيه أكثر من ألفي مشارك ومشاركة كان رسالة واضحة أن التنوير لم يعد مجرد حلم يتمناه الناس واجتمع في عمان أهم رجال الفكر والمعرفة الذين يحملون على عواتقهم رسالة التنوير ويواجهون بشجاعة تراشق الاتهامات المختلفة من أجل تقديم الإسلام في صورة واضحة مقنعة لاينفصم فيها الواقع عن النص.كان المشهد رائعاً فقد تجمعنا هناك من أوطان مختلفة, وعلى كل منا أوضار معركة, وسهام متتابعة, نحمل هماً واحداً وهو تطوير الخطاب الديني وتجديد الفقه الإسلامي بما يحافظ على ثوابت الشريعة.
الشيخ أحمد الكبيسي الذي يعاني بشكل يومي من هجمات التيار المتشدد والذي يوالي اتهامه بالهرطقة واللعب بالثوابت, كان يحدج في عيون الحاضرين وهو يتأمل المستقبل القاتم لأرض العراق بلاد الرافدين الموصولة بالمجد من فجر أور إلى حدائق بابل إلى حضارة بني العباس, كان حديثه يئن من الأسى وهو يشهد الكارثة العراقية التي لا يمكن تصديقها, كيف تحول ذلك الشعب العظيم إلى طابور للموت ينتظر فيه الناس حتوفهم ويشربون عن وعي كأس الموت التي يشترك فيها العباد هناك, وبعد تأمل طويل أطلق زفرته بوضوح: نعم أنا مع النظام العلماني, لا يمكن أن يخلص العراق من كارثة الموت هذه إلا فصل الدين عن الدولة, وراح يردد الدين لله والوطن للجميع, يا أحرار العالم انقذوا العراق, ويا أهل العمائم لا تكوروا العراق على وفق عمائمكم, وآمنوا بما أنزل الله فيه من التسامح, ولا تكونوا أول كافر به, ولا تشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.
لم تمر صيحة الكبيسي من دون عاصفة فالقوم لا يعقدون مؤتمرهم في مسرح السماء إنهم على الأرض بأحزانها وهمومها ودجاليها وقديسيها وفرحها وفجورها, وتلقى الشيخ الكبيسي على الهواء نصيبه من الهجوم العنيف الذي يتلقاه كل يوم عبر مواقع العالم الأنترنيتي الأخضر, أطرق رأسه وقال بالعراقية: زين, مفهوم, وصمت.
الحبيب علي الجفري هو الآخر قدم مترنحاً من عناء عشرات المواقع التي تخصصت بمتابعة حركاته وسكناته وعد أنفاسه والتفنن في ابتكار التبديع والتضليل والتفسيق لهذا الرجل القادم من رياض اليمن السعيد, والذي يحمل على عاتقه شاله الأبيض وعليه رسالته في التسامح والرضا بمراد الله, وبالتالي إحياء رسالة ابن عربي في إعذار العالمين ومع أن ابتسامته لم تكن تفارق وجهه ولكن كان من الواضح أنه يرسل من ورائها رسالة الأسى المطبوعة بقول الأول : أريد حياته ويريد قتلي فأترك ما أريد لما يريد.
الصادق المهدي هو الآخر لا يزال يؤمن بأن الحرية هي القدر الممنوع في أرض العرب, ولا يزال بألقابه الكبيرة: الإمام ودولة الرئيس يطير من أفق إلى أفق وهو يحمل على عاتقه رسالة الحرية والديمقراطية, وحيث يتحدث عن أحلامه في رؤية فضاء الحرية فإن جبهات تتفتح عليه من كل حدب وصوب تقترف سائر أنواع الاتهام, ولا تشفع له ألقابه الكبيرة وتاريخه المرير في إقناع خصومه بالتوقف عن ذر الرماد في العيون, والكف عن الاتهام والتجني.حتى حسن حنفي الكاتب الإسلامي الأحمر فد حظي بمقعد في مؤتمر الوسطية, كان يتنحنح شاكراً الله أنه وجد حاضنة مستعدة للاستماع إلى خطابه على الرغم مما تعرض له من حرم وتهجير, وعلى الرغم من أنه خاض في شواطئ لم نجرؤ على متابعته فيها ولكنه حظي بقدر أقل من الهجوم ربما لأنه ظل يقارب المسائل ولا يلامسها, ويوغل في الأفق الفلسفي للمسائل فيقول ما يريد دون أن يسمعه أهل النكد والصدود.
تماماً كما في المثل الأول من رأى مصاب غيره هان عليه مصابه, وجدت نفسي أقل القوم عناء على الرغم مما أكابده كل يوم من عناء فأنا أحمد الله أن خطاب التنوير الإسلامي وجد حاضنة تظله وترحمه بعد مشوار طويل من العناء والمكابدة والمكابرة المستمرة وهناك التقينا , كلنا في الهم شرق, والله وحده يعلم كم نكابد ونعاني من أجل أن نقول للناس إن الإسلام يتسع لكل هؤلاء ويستظل به الجميع والله وحده ولي المتقين.
وفي تجربة محايدة لفهم حقيقة ما يجري افتح الأنترنت, وادخل مباشرة إلى موقع غوغل وهو أشهر من نار على علم, واكتب بين حاصرتين عبارة: (الضال المضل) وعلى الفور ستجد مئات النتائج, وجميعها قادمة من مواقع الحركات الإسلامية, فالمصطلح فقهي بامتياز, ويؤلمني أن هذه الشتائم لم تتناول أحداً من نجوم الإغراء أوالإغواء أوالسكر والعربدة, ولا حتى من مشاهير الملحدين وأعداء الدين, ولكن الأسماء التي ستجدها في هذه الدائرة هي أسماء علماء الإسلام الكبار, ولا أعتقد أنك ستفتقد أي أسم من العشرين الكبار في العالم الإسلامي, فالجميع قد حظوا بمن يصنفهم في هذه الدائرة, وتولى رجال من أهل (الغيرة) على الإسلام تقديم الحجج والبنات على ضلال هؤلاء الأئمة وانحرافهم ولعبهم بالثوابت.
تماماً كما لقي رسول الله من سدنة الكعبة ومن أهل الكتاب, الذين تبوؤوا مواقعهم يدافعون باستماتة عن مواقعهم في بيع الأوهام, وكانوا يحلفون على اسم الرب أنهم ما أرادوا إلا إحساناً وتوفيقاً, وفي سياق أوهامهم أطلقوا على النبي نفسه لقب ساحر كذاب مجنون, يتلو عليكم أساطير الأولين, يعلمه رجل أعجمي, وغيرها من الشتائم التي لم يكتم القرآن الكريم شيئاً منها وخلدها في الذكر حتى نقرأها اليوم , ويدرك أهل الحق في سيرهم أنها سبيل لست فيها بأوحد, وأنه العناء الذي كتبه الله على أهل الحق حتى يقوموا بحق الله في الأرض.
متى ستتوقف الحرب على البوكيمون, ومتى سنتوقف عن مطاردة طواحين الهواء الدونكيشوتية, وندرك تماماً أن عدونا هو فقط من يحتل الأرض والعرض ويقتل الناس, وليس من يخالفنا في الرأي أو ينافسنا في العمل, ومتى ندرك أن الوطن كبير ويتسع للجميع, ومتى يدرك أبناء المواقع الإسلامية أنهم حين يشتمون إخوانهم فإنهم يأكلون أنفسهم, هل يحتاج هؤلاء لمن يذكرهم بحديث الحكمة العربية أكلت يوم أكل الثور الأسود.
ذات يوم كنت في مؤتمر مماثل مع الشيخ الشهيد معشوق الخزنوي حين تحدث أحد الغاضبين من سدنة الهيكل, مقطب الجبين عاقد الحاجبين وقال بنزق: نطالب بتشكيل محكمة فكرية صارمة, يساق إليها أولئك الذين يكتبون خارج الإجماع, ويحاكمون ويعاقبون ليكونوا للناس نكالاً!! يومها قال الشيخ معشوق أنا أرفض محاكم التفتيش وأطالب بحصانة للمفكر المسلم تحمي حقه في التفكير والتعبير, وتنعقد تحت عنوان لا إكراه في الدين.
يبدو أيها الشهيد أن آمالك قد تحققت ليس لتحميك أنت وقد أصبحت صقراً غارباً في سماء الملكوت, ولكن من أجل رسالتك الباقية, لقد ولدت حاضنة جديدة لرجال التنوير الإسلامي وقامت في الزمن الصعب تتولى الدفاع عنهم, وحماية حقهم في التفكير, وتعزز التفكير الوسطي الملتزم بثوابت الشريعة, تحت مظلة القرآن الكريم الذي كان واضحاً للغاية عندما قال: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً!!