مقالات

د.محمد حبش- سكنى الحاضنة… في نقاش صريح حول قانون الأحوال الشخصية13

تم إصدار قانون الأحوال الشخصية السوري قبل نحو خمسين عاما، وقد تم إعداده على يد نخبة من علماء الشريعة الأجلاء المتنورين، الذين قاموا بدورهم على أتم وجه في التخير من الفقه الإسلامي لصالح الأسرة المسلمة، وقد وقع قانون الأحوال الشخصية موقعاً حسناً في نفوس السوريين نظرا لالتزامه بأحكام الشريعة واعتماده منهجاً متنوراً في عدد من المسائل، وحين كان الفقهاء السوريون الذين أعدوا مسودة القانون يجتهدون في وضعه كانوا في الواقع يطوفون في حديقة الفقه الإسلامي فلا يتوقفون عند حدود المذهب الواحد الذي التزمه فيما قبل القانون العثماني، بل تخيروا من المذاهب الأربعة، ولم يترددوا أيضاً في تجاوز المذاهب الأربعة عندما كانوا يرون أن اجتهاداً فقهياً خارج المذاهب الأربعة يعالج بعض الهموم، ومن ذلك ما اختاره القانون في تعدد الطلاق وفي الطلاق المعلق وفي الوصية الواجبة، ولكنهم تركوا مرجعية القانون فيما سكت فيه للراجح من الفقه الحنفي.
من وجهة نظري فإن التزام الفقه الإسلامي في التشريع كان نتيجة الثقة بغنى هذا الفقه وثرائه والقناعة التامة بمرونة الشريعة وقدرتها على مسايرة الظروف والأحوال بما يناسب الناس في دينهم ودنياهم.
وهنا فلا بد أن أشير إلى ما أقصده بالفقه الإسلامي، فانا هنا أقصد تراث الفقهاء الكبير الذي تركوه للأمة الإسلامية، وهو منجم هائل يشتمل على عشرات الأجوبة للمسألة الواحدة، وهو تراث لا ينحصر في مذهب دون آخر، وإنما يتسع لكل مذاهب الفقهاء، ومن خلال هذا التنوع يمكن للأمة أن تختار ما يصلح لها في دينها ودنياها وقديماً قالوا اختيار الرجل قطعة من عقله، وأعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس، ومن هذه الزاوية يمكن القول موضوعياً إن الفقه الإسلامي هو ديوان للعقل الفقهي الناضج في فترة صعود حضاري، وهو بهذا المعنى أغنى ما تتوارثه الأمة من تراث، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا الفقه فيه بالتأكيد راجح ومرجوح ولكن الراجح هنا هو ما يتناسب مع الزمان والواقع، وبهذا المعنى فقد كان الأصلح والأرجح متطابقاً حين اختار الفقهاء الراجح والمرجوح، ولكنه لا يبقى كذلك بشكل سرمدي، ولذلك فإنني أدعو إلى اختيار الأصلح وليس الأرجح، وليس لدي شك أن الفقهاء الكرام لو أدركوا زماننا لغيروا موقفهم في الراجح والمرجوح بناء على حاجة الأمة المحققة، وهو ما عبر عنه الحنفية بالاستحسان والمالكية بالاستصلاح، والهدف واحد وهو اختيار ما هو أنفع للناس في دينهم ودنياهم.

البرلمانيات اللاتي شاركن في ورشة العمل الأخيرة مع الاتحاد العام النسائي يشتركن في رغبتين عارمتين، الأولى الدفاع عن المرأة وحماية حقوقها، والثانية الحفاظ على أكبر قدر من الارتباط بالشريعة الإسلامية التي يثق الجميع أنها قادرة على الاستجابة لحاجة الزمان والمكان.
البرلمانية المخضرمة هدى الحمصي، على الرغم من حداثة سنها، تخوض الآن الدور التشريعي الرابع على التوالي، فعالة ومؤثرة، تحدثت بواقعية عن قانون الأسرة ليس على أنه هم أنثوي بل هو هم اجتماعي يشارك فيه الرجال والنساء، وأي مظلمة تعاني منها المرأة فهي في الوقت نفسه ظلم يدفع الرجال ثمنه كما النساء، وبلغة الأرقام فإن النساء اللاتي يشغلن اليوم 12 بالمائة من مقاعد البرلمان لا يمكن لهن أن يحدثن تغييراً تشريعياً إلا بمساعدة الرجال، وأشارت إلى أن الرجل ليس بالضرورة ضد حقوق المرأة كما أن المرأة ليست بالضرورة نصيرة لقضايا النساء، واستشهدت على ذلك بمعركة قانون الحضانة حين وقفت عدة نساء ضد هذا القانون الذي جاء أساسًا لإنصاف المرأة.

سكنى الحاضنة كان أهم مقاصد الندوة البرلمانية، وكانت المشاركات ينتظرن أن يصغين لموقف الفقه الإسلامي من مسألة سكنى الحاضنة، وحين كلفت بمطالعة هذه المسألة من كتب الفقه رجعت من صيدي بغنيمتين اثنتين، فالفقه الإسلامي لم يتوقف عند حدود حق الحاضنة بل انطلق أبعد من ذلك نحو حق المطلقة عموماً في السكنى، خاصة تلك المطلقة التي تفارق بيت الزوجية بعد عهد طويل من العشرة وحين تفارق بيت الزوجية لن تجد بيت الأهل الذي تم بيعه واقتسام تركته منذ سنوات طويلة وهكذا ستصبح المرأة عبئاً على كواهل أقاربها يتمقطعون فيها، وهي تعاني مرارة الهوان تتجرعه ولا تكاد تسيغه، ولا تجد في القانون أكثر من حقها في المهر المؤخر الذي يكون قد فقد غالباً قوته الشرائية، هذا إن قدرت على تحصيله!.
إن الرضا بهذا اللون من العناء تكابده المرأة هو إهمال لمقاصد الشريعة الغراء من إنصاف الناس، وتفريط بقوله تعالى : ولا تبخسوا الناس أشياءهم، وقوله: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، بل إن القرآن الكريم وفي إشارة ذات دلالة قال: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، ومن الضروري هنا أن نلاحظ أن القرآن نسب البيت للمرأة، مع أنها هنا مطلقة، مما يستدعي أن نتأمل طويلاً عند هذا التوجيه القرآني الحكيم.
هل يستطيع الفقه الإسلامي أن ينصف المرأة التي فقدت نعمة الاستقرار الزوجي، راغبة أو راغمة، بحيث تستأنف الحياة من جديد في مأوى يكنها من برد الشتاء وقيظ الصيف؟
الجواب من وجهة نظري نعم بالتأكيد لأن الفقه الإسلامي هو في العمق رعاية مصالح العباد، ورفع المظالم عنهم، وحين لا يتحقق ذلك فالمشكلة إذن في قعودنا عن الاجتهاد، واكتفائنا بالموقف الرجعي الذي حاربه القرآن الكريم صراحة بقوله: قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.

إن المطلوب هو إنصاف المرأة في تحصيل حقها حين يتغير لها وجه الزمان، وأن نساعدها في تحصيل ما أنفقته في بناء حياتها الزوجية مما لم يدون لها في سجل أو كتاب، وإذا كان هذا الأمر يبدو واضحاً في حالة المرأة العاملة خارج الدار التي أنفقت ما جنته في حياتها في الدار، ثم كان نصيبها جزاء سنمار، فإن الأمر أيضاً ينبغي لحظه في المرأة العاملة داخل الدار، فهذا أيضاًَ عمل إنتاجي لا يجوز إنكاره، ولو أن الرجل استأجر لخدمة الدار وتربية الأولاد الحاضنات لأنفق الكثير، وهذه تكاليف لا تفرض على المرأة تلقائياً في الفقه الإسلامي، والمسألة الفقهية مشهورة جداً في حق المرأة أن تأخذ الأجر على الإرضاع إن طلبت ذلك!! وكذلك حقها إن طلبت الأجر على خدمة الدار والأولاد وهي مهمات تقوم بها المرأة بحماس وفرح مقابل أن تسعد بحياة مستقرة آمنة، ولا شك أن من أبلغ الظلم أن تقوم بذلك مسرورة مغتبطة، يشكرها الزوج بعظم لسانه وقت العسل، ثم تواجه بعد ذلك بالإنكار والظلم والجحود.
إن الفقه الإسلامي يؤسس لقاعدة الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة، وحين تقوم المرأة بالإنفاق في الدار بمعرفة الزوج ورضاه فهي بمثابة الإجازة اللاحقة التي يجب شرعاً فيها التعويض عند الاختلاف.
إنها هنا مجرد أفكار، ولكنني أدفع بها في ضمير المؤسسة التشريعية، وأعتقد أننا نملك الإرادة الكاملة لإنجاز هذه المبادرة المطلوبة شرعاً وقانوناً، ولا أشك أن إنصاف المرأة المظلومة في تأمين سكن مستقر لها بعد الطلاق سيكون أمراً ترضى له عين الرحمن.

Related posts

الفقيه والحرب… قراءةٌ في بؤسِ تدخل الدين في السياسة

drmohammad

د.محمد الحبش- المهاجر الأعظم…. قراءة في صفحات الاغتراب 19/1/2007

drmohammad

الدكتورمحمد حبش- النص صحيح وليس عليه العمل (1)

drmohammad

Leave a Comment