مقالات

د.محمد حبش- سلام هي حتى مطلع الفجر 26/9/2008

إنها الليلة التي تطل فيها الأرض على السماء وتشرق فيها السماء على الأرض.

شخصياً أشعر أنني أكثر الناس حاجة لنفحات هذه الليلة المباركة فكلما كان المرء أكثر اشتغالاً بوضر السياسة وعناء النافس المحموم فيها، وكلما عاد في مسائه مثخناً بالجراح، كلما كان أكثر شوقاً لنفحات الشهر المبارك بكل أسراره وأشواقه وعجائبه، وكلما كانت مصاعب الحياة وتحدياتها أكبر كلما كانت الحاجة أكبر لمنصة السماء المطلة على الأرض.
بخلاف المألوف فأنا أستأذن إدارة صحيفة الثورة لأذهب بمقالي هذا الأسبوع إلى عالم الأشواق والأذواق بعيداَ عن هموم المواطن اليومية التي تعنى بها الصحافة الإخبارية، وكذلك بعيداً عن خطاب التجديد الإسلامي الذي تعنى به هذه الصفحة، ولكن أجواء ليلة القدر ترسم للحياة لوناً آخر ومعنى آخر، لا نفهمه إلا في ظلال المحراب ولا نعيشه إلا في أشواق الدار الآخرة وأذواقها ونعيمها.
هناك ثلاثة طرق للوصول إلى الله: علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، تسمع بأرض مكة وما فيها من أسرار وهيبة وجمال، يحدثك العائدون من الحرم الشريف عن أشواقه وأذواقه وأسراره، فتبلغ بذلك إذن علم اليقين، وحين يتيسر لك بعد ذلك أن تشاهد هذه البرامج المصورة عن الحرم الشريف فأنت بلغت عين اليقين، ولكن المقام الأكمل هو أن تصل بنفسك إلى الحرم الشريف وأن تعيش هناك نفحاته وأذواقه وأسراره فأنت إذن قد بلغت حق اليقين!!
قال عثمان: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله بعده وقال عمر ما رأيت شيئا إلا رأيت الله معه وقال أبو بكر ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله ولكن رسول الله الذي بلغ مقام البقاء بالله بعد الفناء فيه كان لا يرى إلا الله، ولا قبل ولا بعد، ولذلك كان يقف على رؤوس الشواهق وينادي : إن لم يكن بك غصب علي فلا أبالي!! ولكن عافيتك أوسع لي وأرجى عندي، لك العتبى حتى ترضى ، لك العتبى حتى ترضى.
وفي الحديث قالت عائشة كانت ليلتي من رسول الله فلما أظلم الليل ولامس جلده جلدي قال: يا عائشة أتأذنين لي الليلة أن أناجي ربي؟ قالت هواي في هواك وأحب قربك، فقام يصلي حتى غفوت فلما أفقت لم أجد رسول الله معي فأخذتني ما تأخذ النساء من الغيرة فجمعت ثوبي وخرجت في إثره حتى رأيته يصلي عند البقيع وإذا هو كالثوب الملقى فلما رفع رأسه من السجود رأيت بلل مدامعه على الأرض التي سجد عليها فلما انفتل من صلاته رآني فقال: يا عائشة ما أخرجك بليل؟ قالت يا رسول الله بابي أنت وأمي .. أنا في حاجة نفسي وأنت في حاجة ربك!!!
من بدايته كانت أشواقه تحترق في غار حراء لقد صعد إلى أعلى جبل في مكة، وهناك اختار غاره بعناية وتوق، يطل من جانبه على الحرم الشريف ويستقبل من جانبه الآخر رياح الصبا، وهناك كان يناجي الله تعالى، ويرفع يديه جناحين طاهرين لعله يحلق صوب السماء البعيدة إلى عالم طهور لا مكان فيه لأطماع ابن آدم، حيث ترى هناك الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين.
إنها حال لازمته في سائر أحواله من بداية السلوك إلى أن صار على باب مدارج الآخرة وحين خيرته السماء بين نعيم الأرض ووعد الجنة، وعلى الرغم من مسؤولياته الجسام وما كان ينتظره في الأرض من تحديات كبيرة سيكتب بها التاريخ فإنه لم يتردد أبداًَ أن يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة!!
المشهد نفسه يوم جاء موسى لميقات الله وكلمه ربه، ومع أنه كان يحمل على عاتقه ألف هم وهم، ومن ورائه شعب عيي مشرد لجوج تائه في الصحراء، ولكنه حين أتيح له أن يقول كلمته بين يدي الرب كان سؤاله الوحيد الذي ذكره القرآن: رب أرني أنظر إليك!!
ألا يعلم موسى بن عمران وهو النبي الكريم من أولي العزم من الرسل أن الله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار؟ إنها معرفة يتلقاها الطلبة الصغار على رواحل المدرسة فكيف غابت هكذا حقيقة عن بال نبي كريم وكبير؟
إنها في الواقع لغة القلوب التي لا تتوقف عند رسوم الظواهر، ولا تنحصر في قواعد السلوك، وتظل تتطلع إلى الأعلى حيث الله!!
قيل للإمام الشافعي: أتؤمن أنك ترى ربك في الآخرة؟ قال الشافعي بيقين: لو لم يؤمن محمد بن إدريس الشافعي أنه يرى ربه في الآخرة لما عبده في الدنيا!!! إنه لما صد قوماً عنه بالسخط دل على أن آخرين يرونه بالرضا!! كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.
إنها زحمة أفكار تأخذك إلى عالم واحد وهو عالم الوصال بالله وهو غاية العارفين السالكين، وقد ظلت رابعة العدوية تغنيها بالرجاء: فيا رب بالخل الحبيب محمد نبيك وهو السيد المتواضع، أنلنا مع الأحباب رؤيتك التي إليها قلوب الأولياء تسارع.
ليلة القدر فرصة سماوية لجعل قلبك وحبك يعتمد لغة أخرى في علاقتك مع السماء، لغة الحب لا لغة القهر، لغة الشوق لا لغة الجبر، إنها باختصار لغة العباد لا لغة العبيد، يعبدونه حباً واختياراً ولا يعبدونه جبراً واضطراراً، وهو أفق رسمت ملامحه العابدة الناسكة رابعة العدوية بقولها: إن قوماَ عبدوك ابتغاء جنتك، فتلك عبادة التجار، وقوماَ عبدوك خوفاً من نارك فتلك عبادة العبيد، وقوماَ عبدوك لأنك أنت الله حباَ وشوقاً فتلك عبادة العارفين!!
العبادة غاية وجود الإنسان في الحياة، أليس قد قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ولكن العبادة التي تقرؤها هنا ليست الخضوع والقهر والاضطرار، إنها كما حددها الجوهري في الصحاح المرتبة الثانية عشرة من مراتب الأشواق: حيث يبدأ الأمر بالمعرفة ثم يكون رغبة ثم يكون ميلاً ثم يكون هوى ثم يكون حباً ثم يكون عشقاً ثم غراماً ثم هياماً ثم كلفاً ثم وجداً ثم ولهاً ثم يكون عبادة!!
فكل عبادة لم تمر على قنطرة الحب والشوق فهي عبودية وقهر، ما لها من رابط بجنة الوصال.
حين تصف قدميك الليلة في محراب الشوق سائر ليلة القدر تذكر أننا جئنا من السماء وإليها نعود، وأن مكان ابن آدم في رغد الجنة، حيث تشرق روحه من جديد بالطهر والنبالة والسمو الروحي الذي جبل عليه ابن آدم.
مع أنك تقرأ في صحيفة أخبارية، ومع أن جريدة الثورة معنية بمناقشة هموم المواطن في الأرض وليس آماله في السماء، ولكن الروح الغامرة التي تحملها هذه الليلة تكسر كل هذه الأسوار وتفرض عليك أن تطل من علُ، حيث لديك فرصة الاتصال بالعالم الأسمى عالم القلب والشوق، عالم الجلال والوصال.
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
أدعوك أن تغتسل اليوم وتتطهر وتصف قدميك الليلة في محراب الشوق وتنادي مع رابعة العدوية:
طرقت باب الرجا والناس قد رقدوا وجئت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقد بسطت يدي بالذل مفتقراً إليك يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد
اللهم اجعلنا من أهل ليلة القدر

Related posts

د. محمد حبش- الطريق إلى تنوير العقل الإسلامي .. من أين نبدأ…? 11/4/2008

drmohammad

المذهب الإنساني في الإسلام

drmohammad

د.محمد حبش- نهاية التاريخ 22/2/2008

drmohammad

Leave a Comment