Uncategorized مقالات

ردة ولا أبو بكر لها

“ردة.. ولا أبو بكر لها”، هكذا عنون الشيخ أبو الحسن الندوي كتابه منذ خمسين سنة، وهو واحد من أشهر الكتب التي قرأها جيلنا في الثمانينات من القرن الماضي، وهو أكثر من رسم ملامح الوعي لشباب الصحوة الإسلامية لعدة عقود تالية.

والكتاب يدور حول فكرة واحدة وهي أن العالم الإسلامي يشهد ظاهرة ردة، وأن الحكومات باتت تحكم بغير ما أنزل الله، وأن الملاحدة باتوا يعيشون بيننا على أرض الله، فيأكلون خيره ويعبدون غيره، ويأتون بثقافات وافدة من الغرب وينحرفون عن سبيل فقهائهم وعلمائهم، وأنه لا يجدي في مواجهة هذه الردة غير الجهاد، وجيوش أبي بكر، وأن علينا أن نستنفر بأموالنا وأنفسنا للقتال في سبيل الله ضد أعدائه، انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدو في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم.

ومع أن الشيخ الندوي عاد في الكتاب فخفف من حدة شعاره وقال إننا نريد كفاحاً غير دموي، ولكن ظل الشعار أقوى من المضمون وكتبت تحت الشعار نفسه دراسات كثيرة غاضبة تطالب بغضبة مضرية تهتك حجاب الشمس أو تمطر الدما.

ولأجل خوض هذه الحرب الضارية وجد هؤلاء أن أفضل ما يستدلون به هو منهج أبي بكر نفسه في محاربة المرتدين باعتبار أن أبا بكر لم يقبل أي صيغة تفاوض أو مصالحة أو مساومة مع المرتدين واختار الحل العسكري والسيف حتى النهاية.

وفي الواقع فإن أبا بكر لم يكن يتحرك وفق وحي سماوي ولكنه كان يجتهد لمصلحة الأمة، وكان يعارضه في ذلك صحابة كبار أيضاً أبرزهم عمر بن الخطاب الذي حاوره مراراً حتى اشتد الحوار بينهما وقال أبو بكر غاضباً: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام يا عمر!!! والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه!!!

ويؤلمني أن ربعنا يقولون اليوم أنه لولا سيف أبي بكر لضاع الإسلام وضاعت الأمة ولما وصل للأجيال التالية قرآن ولا سنة ولا هدى ولا نور!!.  وهكذا نجزم من حيث لا نريد بأن السيف هو من نشر الإسلام وهو من فرض على الجميع الخضوع والطاعة ولولا السيف لما اختار الإسلام أحد!!.

وقناعتي أنه لو تم الحوار مع القبائل والاستجابة لمطالبهم لما تغير في مجد الإسلام شيء ولكان الدخول في الإسلام أكثر قناعة وشورى وحكمة ورحمة، فأنا أثق بالقيم التي بشر بها هذا الدين وأثق أنها في العمق مصدر قوته وسر نجاحه.

وبعيداً عن قصة حروب الردة فإن الفكرة التي زرعتها هذه الدراسات ولا زالت هي أن النزاع السياسي الذي تشهده الدول الإسلامية اليوم بين تيارات تريد تحكيم الشريعة وبين تيارات تريد الدولة المدنية، وبين تيار يريد تحكيم الشريعة وتيار يريد تطوير الشريعة، هو نزاع بين الإسلام وبين الكفر!! وأن صراع التيارات الإسلامية والعلمانية هو صراع ماحق بين الإسلام والكفر، وأن المسلمين في كفاحهم لتطبيق الشريعة يخوضون حروباً لا تقل عن بدر وأُحد، في مواجهة تيارات علمانية يحلو لهم وصفها بتيار أبي لهب وأبي جهل!!.

ومن المؤلم أن نعترف أن هذا الشعور لا يزال يطبع كثيراً من الحركات الإسلامية، حتى تلك التي لا تؤمن بالعنف، ولكنهم لا يتصورون الفريق الآخر منافساً سياسياً بل يرونه عدواً محاداً لله ولرسوله، وأنه لا يحمل من هدف سياسي إلا العدوان على الإسلام، وأنه يقود ردةً ولا أبو بكر لها!.

وهذا الموقف الذي رسمته في أذهاننا مؤلفات المشايخ في السبعينات والثمانينات حمل جيلاً كاملاً على اعتبار الخلاف السياسي نزاعاً بين الإسلام والكفر، وأنه في الجوهر خلاف بين تحكيم شرع الله وتحكيم شرع الشيطان، وأنه لا يمكن الاعتراف بدولة ما أنها إسلامية إلا إذا أنتجت قوانين فقهية على وفق خيارات السلف، وأن كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف.

وبصورة أوضح فإن 53 دولة إسلامية من أصل 57 دولة باتت اليوم تطبق في قانون العقوبات أنظمة حديثة تتفق تماماً مع مقاصد الإسلام في نشر العدل وقمع الجريمة ولكننا لا تتفق مع رؤية السلف في شكل العقاب وصورته، وقد باتت القوانين الجزائية في سائر الدول الإسلامية تعمل على هذه الأهداف النبيلة، وتقنن شرائع واقعية في العقاب لا تتطابق مع منهج السلف ولكنها تتطابق مع مقاصد الإسلام.

ولكن هؤلاء لا يرون فيها إلا ردة عن الإسلام وتنكباً عن مراده وأمره، ولا يزال الخطاب يتكرر على المنابر بأننا لن نكون مسلمين حتى نعود لرجم الزاني وصلب الزنديق وقطع السارق في ربع دينار!!.

ولا تتوقف الاتهامات في السر والعلن بأننا نعيش في أنظمة وضعية كافرة لا تقوم بتحكيم شرع الله ولا يمكنها أن تنتظر نصر الله وتأييده لأنها لا تطبق الحدود كما طبقها السلف.

ومع أن البرلمانات الإسلامية اليوم تضم على مقاعدها مئات النواب القادمين من حركات إسلامية أصولية ولا يطرحون على الإطلاق العودة إلى أنظمة العقاب البدني، ويفهمون أن العالم قد صار في مكان آخر، ولكن مشايخنا لا يزالون يصرون على التزام أشكال العقاب الجسدي القديم، ويعتبرون فصل ما بين الإسلام والكفر هو قبول تشريع آخر، وذلك وفق ما قرره الشيخ محمد عبد الوهاب في نواقض الإسلام حيث قال إن من نواقض الإسلام وموجبات الكفر أن تحتكم إلى تشريع وضعي أو تقبل به، حتى ولو قلت إن الشريعة خير منه!!، وأنت في ردة ولن تعود للإسلام إلا إذا تمردت عليه ولعنته كحكم علماني فاسد محاد لله ولرسوله!!.

ومع أنهم تقبلوا على سبيل المثال التحول في آلة الحج من البعير والناقة والضامر إلى السيارات والطائرات، وتقبلوا في آلة الصلاة الانتقال من التبليغ البشري الجهوري إلى المكروفونات والإذاعات، ولكنهم لا يزالون يرفضون أي تحول عن العقاب البدني القائم على التعذيب إلى العقاب الإصلاحي الذي يحقق قمع الجريمة ولا يسحق الإنسان.

هل حان الوقت لنرفع صوتنا بوضوح ونقول: إن أقرب الأنظمة إلى الله وإلى مقاصد الإسلام هي تلك الأنظمة التي تحقق العدل والمساواة سواء كانت من فقه الإمام الشافعي وابن حنبل أو كانت من وضع جان جاك روسو ومونتسكيو ولا يبنتز وديفيد هيوم.

هل حان الوقت لنقول إن العالم في سعيه الحضاري ليس ذاهباً إلى ردة جديدة، وأن الإيمان لا يتوقف على تطبيق قانون عقوبات سلفي بقدر ما يتوقف على تطبيق قانون عقوبات يحقق العدالة ويقمع الجريمة ويحقق الأمن للناس.

Related posts

د.محمد حبش-الميثولوجيا .. مركب المعرفة دان براون نموذجاً

drmohammad

د.محمد حبش- سلام هي حتى مطلع الفجر 26/9/2008

drmohammad

الحوار……. أو الدمار

drmohammad