إطلالة من كريوفا وكاشغر
للمرة الثانية على التوالي أكتب عن رومانيا، وربما يغريني للكتابة في ذلك ما شهدته العلاقات هذه الأيام بين البلدين من تطور، فقد وصل إلى سوريا وفد لجنة الشؤون الخارجية للبرلمان الروماني وأتيحت له مقابلة السيد الرئيس، كما وصل إلى دمشق وزير المال والاقتصاد الروماني، ووقعت سلسلة اتفاقات تعزز العلاقة الاقتصادية بين البلدين.
ولكن الأفق الذي أكتب عنه هنا ليس قريب الصلة بهذه اللقاءات السياسية الكبيرة، وإنما يتصل بالأفق الثقافي والحواري للعلاقة بين سوريا ورومانيا أو بشكل أدق بين الإسلام ورومانيا.
قبل خمسة قرون تحديداً كانت رومانيا تواجه المد العثماني وكان مداً جارفاً أيام السلاطين الكبار الذين انطلقوا بدافع الثأر لأيام الحروب الصليبية الكبيرة التي عصفت بالمنطقة، واشتهرت رومانيا آنذاك باسم الحاكم العنيف دراكولا مصاص الدماء.
دراكولا أعلن مواجهة العثمانيين، وأعلن أنه سيكرس حياته لمحاربة الإسلام ولن يسمح على الإطلاق لأي امتداد إسلامي في أوروبا، ونصب الخوازيق والمشانق وبث الرعب في بلاد الدانوب وقتل بالشبهة والظنة، ونكل بالقتلى تنكيلاً لا ينفع معه أي تأويل، وكانت رسالته واضحة: ممنوع دخول الإسلام إلى أوروبا!!
قبره اليوم في سيناغوف وقلعته الرهيبة التي اشتهرت بفظائع القتل في براشوفا من أكثر المعالم السياحية زيارة في رومانا، يحفها الهول والدهش، وهي شئنا أم أبينا جزء من تاريخ الصدام بين الشرق والغرب، أو بين أوروبا والإسلام.
وحين تتذكر دراكولا فإن الذاكرة تقفز فوراً إلى نظائره من الفرسان الأوروبيين الذين خاضوا حروباً شرسة ضد انتشار الإسلام في أوروبا وعلى رأسهم إيفان الرهيب الذي قضى على مملكة سيبر الإسلامية في قازان بقفقاسيا في روسيا الحالية وفلاد السفاح في رومانيا وأخيراً رادوفان كارازيتش وسلوفودان ميلوسوفيتش، وغيرهم من الحكام الدمويين الذين وصلوا مجازر الحاضر بمجازر الماضي من مجزرة سقوط بغداد إلى سربرينتسا.
أشبه الناس بدراكولا كان هولاكو سفاح الشرق الذي قاد مجموعة هائلة من الجحافل الهائجة المنسابة من عاصمة المغول كاشغر في سفوح الهملايا لا يصدها شيء عن غايتها في استباحة كل ما هو عربي ومسلم، وبعد أن أحرقت المدائن الإسلامية المتتالية من خوارزم إلى بلخ إلى نيسابور، إلى أصفهان والري وشيراز وقزوين ولم تسلم مدينة إسلامية من أذى المغول وبطشهم وصلوا في النهاية إلى بغداد وكانت أيام الهول التي رواها التاريخ، وعلى الرغم من استسلام الخليفة المستعصم لإرادة هولاكو فقد وضع في كيس من الخيش وأمرت الخيول الجرارة أن تتحرك لتدق عنقه تحت سنابك الخيل ولم يشتف هولاكو من المشهد حتى سويت جثة الخليفة بالأرض ولم يتبق منها أثر حياة، أما دجلة فقد طرحت فيه كتب الحضارة الإسلامية من خزائن بغداد الغنية والباذخة، وهناك في قلب العاصمة التاريخية راجت صورة المحارب المغولي تأخذ مكانها في مخيلة الناس على صورة وحش كاسر، لا يؤمن بالإنسان ولا بالمدنية ولا بالحضارة ويتحرك كوحش هائج.
ثلاثة أعوام من الصمت، وهولاكو يقول: لمن الملك اليوم؟؟ والجواب هو للسلطان الغازي المنصور المؤيد هولاكو بن تولوي بن جنكيز خان
كثيرون كتبوا عن نهاية العالم، فشرح ابن كثير الفظائع الدامية التي خلفت بتقديره نحو ألف ألف قتيل وذبيح، وكان الناس يجتمعون في دور العلماء والأكابر ويغلقون عليهم الأبواب فيأتيهم المغول فيحرقون عليهم الأبواب أو يكسرونها ثم يقتلونهم على الأسطحة والأدراج حتى تعفنت الجثث وفاضت رائحة الموت في كل مكان في بغداد، حتى الإمام القرطبي وجد نفسه يتحدث عن المغول النسخة النهائية ليأجوج ومأجوج الذين يبعثون يوم الحشر علامة ظاهرة من علامات الساعة.
إقبال خلد بروحه الشاعرية المأساة التي لحقت بالحضارة الإسلامية على ضفاف دجلة بقوله:
يا دجلة هل سجلت على شطيك مآثر عزتنا
أمواجك تروي للدنيا وتعيد صحائف سيرتنا
ولكن الحضارة الإسلامية تمكنت في النهاية من مواجهة المشروع المغولي الهائج، ليس بالجيوش الجرارة، فقد كانت النساء المغوليات يقذفن في كل عام من المحاربين الحديديين أكثر من أهل العراق جميعاً بعد المجزرة، وكان واضحاً أن مستقبل العلاقة مع العراق محكوم بالموت ولا شيء مسموحاً في هذه المدينة البائسة التي دمرتها الحرب.
ولكن المفاجأة كانت أن أحفاد هولاكو من سلاطين المغول بعد أن عاشوا في حياض الإسلام وتعرفوا شيئاً فشيئاً على القيم الحضارية في الإسلام بدأت مشاعرهم تتوق لذلك النعيم الروحي، وفجأة أطلت على العالم وجوه مغولية تعتنق الإسلام، وفجأة بعد أن تقرأ ما ارتكبه هولاكو وجنكيز خان وما تبعهما من مجازر يقرأ المؤرخون نبأ قيام الدولة المغولية الإسلامية القبجاقية والدولة المغولية الإسلامية الإيلخانية، والدولة الإسلامية المغولية الإستراخانية، وهي دول قامت في الحواضر الإسلامية على يد أباطرة مغول انقلبوا على تاريخهم الدامي وراحوا يبشرون بالإسلام في حواضرهم !!
حين تتجول اليوم في القارة الهندية سيهولك مشهد المآذن المغولية المتناسقة التي تحكي حضارة هذه البلاد الجبارة بعد أن سعدت بربيع الإسلام.
زرت في لاهور مسجد بابر شاه الذي يقوم على مساحة تعادل ثلاثة أضعاف المسجد الأموي، وقد كتب على لوحة كبيرة بناه السلطان المغولي بابر ابتغاء وجه الله!!
المدارس والإيلخانات والتكايا والزوايا والبيمارستانات المغولية التي لا عد لها ولا حد ولا حصر، بقيت شاهدة على خلود الحضارة الإسلامية على الرغم من البغي المغولي الكاسر.
من كان يصدق أن أحفاد هولاكو سيحملون رسالة الإسلام إلى قلب آسيا ومعها عبير حضارة معجون بالروح، يأسر أولي الألباب ويجعل الدنيا كلها تحن إلى رائحة الشرق؟
بعد بكائه على أطلال بغداد المفجوعة الذبيحة، راح إقبال يتحدث عن فجر جديد في مشهد الحضارة الإسلامية:
بغت أمم التتار فأدركتها من الإيمان عاقبة الأماني
وأصبح عابدو الأصنام قدماً حماة البيت والركن اليماني
المشهد نفسه في رومانيا، أحفاد دراكولا وفلاد السفاح اليوم يقيمون في جامعاتهم أقساماً خاصة لدراسة الإسلام، ويرسلون خيرة طلابهم لدراسة الإسلام بالتعاون مع دمشق حاضرة الإسلام الساكنة على ضفاف الصحراء!!
الحقيقة بسطرين اثنين: حين ترسل إلى الشرق جباة قساة على ظهور الخيول سيجيبك الشرق بهولاكو وجنكيز خان، ولكن حين ترسل لهم الدعاة بالبشارة وتفتح مسامع قلبك وأذنيك فإنك ستجعل منهم أباطرة المغول الذين ملأوا بالرقة الحنان مسمع الدنيا وأنعشوا حدائق الهند بزنابق العشق، كما تشهد لهم حدائق شاه جهان وتاج محل ومساجد أورنك زيب.
حين ترسل إلى الغرب الجيوش الجرارة المدججة بالكلل المتفجرة والطبجانات الحارقة تحت رايات الإسلام فإن الغرب سيجيبك بدراكولا دموي مسعور، وفلاد السفاح وإيفان الرهيب، ولكن حين تصل رسالة الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ونفتح باب الحوار على أساس من الإخاء الإنساني والمساواة في الحقوق فإن أحفاد دراكولا أنفسهم سيفتحون لك قلوبهم وأفئدتهم رجاء أن يشرق في قلوبهم نور الإيمان.
الإيمان الذي نفهمه رسالة المساواة والمحبة، الرسالة التي تؤمن بالنبوة السابقة والحكمة اللاحقة، والتي تدعو إلى أمة بين الأمم وليس إلى أمة فوق الأمم، حضارة بين الحضارات وليس حضارة فوق الحضارات، الوحي الذي تلقته من السماء قبل أربعة عشر قرناً هو عينه ما يدركه الشرفاء والعقلاء، وتقره الأسرة الدولية ويحترمه العالم، نجده في القرآن كما نجده في إعلان حقوق الإنسان، وندرسه في السنة النبوية كما نقرؤه اليوم في مطالب العدالة الدولية، حين تتبرأ من السياسة ومصالح الاستكبار العالمي التي صارت مفضوحة مكشوفة لكل ذي بصيرة.إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
هذا باختصار الدرس الذي قرأته في زيارة رومانيا، وبشكل خاص زيارة جامعة كرايوفا بلاد العم دراكولا!!