وبالاعتذار من الحنجرة الماسية التي منحت هذه العبارة حمولتها الإيديولوجية وأنطقت بها الحناجر المتعبة في الشرق فإنني ذاهب إلى الحديث عن أفق آخر من تلك الأرض الخضراء التي شهدت خلال التاريخ أقسى أشكال الصدام بين الشرق والغرب.
كانت فرصة نادرة تلك التي منحني إياها السفير العزيز رياض عصمت للمشاركة في مؤتمر الإسلام والقانون الدولي في عاصمة الجمال الأوروبي والرومانسية في سالزبورغ حيث كانت مناسبة حقيقية للحوار بين الإسلام والغرب، على ضفاف ليوبولد سكرون، قريباً من متحف موزارت وضريحه حيث قدم الموسيقار الشاب أعظم دليل على الإخاء الإنساني حين استطاع أن يقدم للعالم لغة واحدة تلامس القلب وتملك التأثير ذاته في العربي والأعجمي والمؤمن والكافر والأصولي والعلماني والرجل والمرأة والغني والفقير، وقد استمع العالم كله إلى موسيقا موزارت الذي فارق الحياة في 1791 وهو ابن خمسة وثلاثين عاماً، ولم يكتب له أن يستمع إلى أوتاره الملائكية وهي ترسم لوحة الإخاء الإنساني في الأرض على نغم أوتار الأشواق الدافئة وليس على قرع طبول الحرب التي قرع بها الإنكشارية قبل ذلك بمائتي عام على أسوار فيينا العصية والتي كرست للشقاق والعنف المتبادل بين الإسلام والغرب.
أكثر من درس ومتعة كان يشتمل عليه ذلك اللقاء الكبير، ولكن أروع ما فيه كان الرغبة الصادقة من خبراء القانون الكبار الذين شاركونا هذا المؤتمر وإصرارهم على اكتشاف المشترك بين الإسلام والحضارة الإنسانية.
على مدى سبعة أيام كان الحوار بين الفريقين يتركز حول المشترك بين الإسلام والقانون الدولي، فما بشرت به رسالات السماء لا بد أن يجد صداه على الأرض في إطار الكفاح الإنساني التواق إلى الحرية والكرامة والعدل.
حين كنا نتناول العشاء على ضفاف ليوبولد سكرون كانت تطوف بالخاطر ذكريات كنا نتغنى بها على مقعد الدرس عن البطولات الأسطورية التي قام بها غزاة الإنكشارية في القرن السادس عشر على أسوار فيينا، بين الملك يانوش والأرشيدوق فرديناند والسلطان العثماني سليمان القانوني، حيث كنا نشير إلى حصار فيينا على أنه أحد إنجازات الفتح الإسلامي العظيم، في القضاء على الكفار، مع أنه لم يكن في الواقع إلا شكلاً من أشكال الصراع السياسي والعسكري الهائج في العصور الوسطى، ولم يكن الله ولا ملائكته ولا جبريل ولا ميكال في أي من المعسكرين، ولكن كانت أطماع الساسة وغرائزهم الهائجة في بناء مزيد من الثروة والسلطان، هي التي كانت تحرك الجيوش الجرارة تحت عناوين متقابلة من الفداء للصليب والهلال، وهو صراع دفع بكل تأكيد ليخرج الناس من دين الله أفواجاً، وسرع بشكل كبير في ولادة العلمانية الأوروبية التي أطلقت عصر الأنوار ثورة على كل ما يرتبط بالسماء، وأعلنت موت الإله وأوصت بشحن جثته إلى المتاحف!!
في قاعة ليوبولد سكرون الأسطورية التي تختصر لك تقاليد العصور الوسطى بكل ما فيها، حيث يلتقي الجمال والثراء والأبهة والطبيعة على رسم لوحة أسطورية تلهم الشعراء أن يقرؤوا مكامن ما أودع الله في العالم من أسرار باقية، وإشراقات عميقة، وهو الجمال الذي منح موزارت إعجازه الروحي الذي خط فيه بأوتاره على مشاعر الحب والإشراق في ضمير العالم، كان البروفسور مايكل غولدمان قد أنهى للتو مقابلة أنجزها بين الإسلام وبين القانون الدولي، لقد قامت اللجنة المكلفة بإجراء مقابلة دقيقة لم يخطر ببالنا نحن المسلمين أن ننجزها من قبل، لقد تم عرض نصوص ميثاق حقوق الإنسان بنسخته الإنكليزية وكان علينا أن نقارن بين النص القرآني وبين ميثاق حقوق الإنسان، ومع أن هذا المسعى يلامس رغبة شديدة لدي في تعزيز ثقافة المشترك ولكنني أصدقك القول أنني لم أقم بإجراء دراسة كهذه من قبل، وظل حديثنا عن المشترك بين الإسلام والحضارة الإنسانية في إطار الخطب الإنشائية، ولكنها كانت المرة الأولى التي نبدأ فيها إجراء دراسة مقارنة تفصيلية لما أنجره الإنسان بكفاحه وعنائه وعذاباته وما بشرت به السماء على ألسنة المرسلين.
بالفعل كان الفريق الحقوقي الدولي المتخصص قد أنجز أكثر من ثلثي المهمة حين كتب إلى جانب كل فقرة من فقرات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان دليله من الكتاب والسنة!! واقتصرت مهمتي على التخريج والتوثيق، ومع ذلك فقد كان غولدمان أشار إلى مرجع كل نص برقم الصفحة والآية، أو تخريج الحديث عند الأئمة، ودهشت لحرص الفريق الدولي على إظهار قيم التسامح والاعتدال في الإسلام عبر آلة حقوقية وعلمية وموضوعية.
المواد الثلاثون لحقوق الإنسان كما نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10/كانون أول 1948 وردت بالكامل في نصوص القرآن الكريم، وفي السنة الشريفة، هكذا أعلن غولدمان سعيداً هو وفريق الخبراء معه، وكان كلما نص على مادة من الإعلان في القرآن الكريم يوشك أن تنطق جوارحه صدق الله العظيم، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.
أعلن المؤتمر أن الإسلام نصير حقيقي لحقوق الإنسان وأن ما دعا إليه الدين بنصه المقدس هو عين ما أنجزه الإنسان في كفاحه المتواصل، وأن المشترك أكثر مما تعتقد، وأن الشعوب الإسلامية مطالبة بأن تدعو إلى القيم العظيمة التي بشر بها الكتاب وهي القيم عينها التي كافح الإنسان من أجلها آلاف السنين.
شعرت بالمرارة من العناء الذي نتكبده في العادة ونحن نحاور الآخر بعقلية المتربص الذي لا ينفك عن تحقير خصمه وتوجيه الإهانات له كيلاً وميلاً وردحاً، وعلى سبيل المثال أذكر هنا أحمد ديدات وجيمي سواغارت حيث كانت المناظرات الهائجة بين المتحاورين تدفع كلاً منهما إلى تحقير خصمه وإهانته وإهانة مقدسه تحت عنوان الحوار والمناظرة، والمؤلم أننا كنا نصدق آنذاك أن مئات من المشاركين أعلنوا دخولهم في الإسلام عقب المناظرات، وأظن أن الطرف الآخر كان يسوق لنتائج معاكسة في حين أن حواراً من هذا النوع لم يكن لها أي نتيجة على الإطلاق سوى ترويج ثقافة الكراهية والإساءة إلى مقدس الديانتين وبالتالي دفع الفريقين إلى مزيد من التمترس حول الذات والتربص بالآخر وتوقع بطشه وغدره، والاستعداد لجولات قادمة أكثر شراسة وعنفاً.
المؤلم أن بعض من سيقرأ هذا المقال سيقول كيف تريدنا أن نحاور شارون ونتنياهو بالحكمة والموعظة الحسنة؟
مصيبة هذا الفهم الإثني الغبي للعالم، والترويج لمؤامرة يشترك فيها سكان الكوكب ضدي، من نيوزيلاندا إلى آلاسكا، وأنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً، وأن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب؟
إنها مشكلة أخرى أن تظن أنه ليس في هذا العالم إلا نحن أو شارون؟
العالم مملكة الله، وجميع الناس مسحت جبينهم يمين الرحمن، ورسالتك أن تقدم الإسلام بمنطق مقنع، وليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر.