مقالات

فولتيير واحتكار الخلاص

فولتيير… واحتكارالخلاص

أمضيت هذا الأسبوع ساعات ممتعة مع رائعة فولتيير (قول في التسامح) وفق ترجمة بنكراد أو رسالة في التسامح كما اختارته المترجمة هنريت عبودي، وقد وجدت نفسي مشدوداً لأقرأ الكتاب من الجلدة للجلدة بعد ان صدمني حجم التشابه التام بين واقعنا البائس والواقع الذي نشأ فيه فولتيير في فرنسا، ولو كتمت عنك اسم الكاتب وشخوصه التي يحاكيها وقرأت لك منها لقلت إنه شاب من الربيع العربي البائس وقد سرقت ثورته، يخوض كفاحاً ضد تيارات السلفية والخلافة والاستبداد، يكتب في غرفة مظلمة على النت باسم مجهول، او يظهر في منصة بيروتية خطيرة، ثم يختفي، أو هو عربي هارب استطاع أن يعبر الى الضفة الشمالية للمتوسط وقال: سأخبر العالم بكل شيء!!

فولتيير إنه أشهر أصوات التنوير التي خلصت أوروبا من ركام التعصب الديني المقيت، ذلك التعصب الذي جر أوروبا إلى الحروب الصليبية السوداء، ثم أعادها مشبعة بالعنف والتزمت لتستأنف عنفها من جديد داخل القارة الخضراء فتسكب الدم في قصورها وكنائسها ودروبها وأحيائها، كما فعلت في بارتلميو باسم الرب ولأجل الرب وطاعة للرب.

فولتيير المولود 1693 في فرنسا، والذي وجد نفسه سجيناً في باريس وهو ابن ثلاثة وعشرين عاماً بسبب ما اعتبر تهوراً وهرطقة، كان عليه أن يبدأ حياته من جديد بذكاء مختلف ليسهم في تنوير أوربا في صالوناتها وجامعاتها بدلاً من أن يمضي بقية عمره في سجن الباستيل.

لقد ارتكب السياسة ومارس براغماتية معقولة ولكنه في النهاية استقر عند المركيزة دي شاتليه التي فتنت به وأحبته وعاش اكثر أيام عمره تألقاً وعطاء في كنفها ينعم بمكانها الأميري ويكتب رائع الحكمة للقيام الفرنسي.

كانت مشكلة فولتيير مع أوروبا هي ثقافة الكراهية، ثقافة الكراهية التي يتلقاها المجتمع من منابر المحبة! حيث يتعلم بمثالية مقدسة أصول الحب العظيم بين الله وأبنائه وأحبائه وكنيسته وقديسيه، ولكنه يطالب على الفور بتعلم البغض المقدس للهالكين البائسين من أبناء الأديان والمذاهب الأخرى الذين لا نصيب لهم في الملكوت وحظهم جهنم وبئس المصير.

كانت النسب متقاربة تماماً مع تلك التي نتلقاها في معاهدنا الدينية وهي أن تسعين بالمائة من البشر مستحقون للعنة الأبدية والجحيم المقيم، وهناك من بلغ منهم النسبة المقررة لدينا في الحديث المنسوب للبخاري وفيه ان الله سيدخل إلى النار يوم القيامة 999 من كل ألف وأن واحداً فقط سيدخل الجنة، وهو فقط المستحق للحب والرحمة دون سواه من الضالين الهالكين، وأن ذلك عدل وقصاص لان الرب عرض عليهم جنته وقيدها بالاعتقاد الكاثوليكي ولكنهم جاحدون يأكلون وينكرون ويمتلئون بالنعم وبمتلئون بالكفران، وبدلاً من تقديس خطاب الرب وأيقوناته ورماد قديسيه فإنهم يختارون التحول الى الهرطقات البروتستانتية الضالة، فكيف بهم أن ينعموا بالخلاص الأدبي يوم الدينونة؟؟

وفي واحدة من روائعه كتب فولتيير عن التجربة اليابانية في التعامل مع الدعاة اليسوعيين، “اليابانيون أكثر الناس تسامحاً، فقد تعايشت اثنتا عشرة ديانة بأمانٍ في إمبراطوريتهم، وقد جاء الآباء اليسوعيون ليضيفوا إليها ديانة جديدة هي الديانة الثالثة عشرة، بيد أن هؤلاء سرعان ما جهروا برفض بقية الأديان، وراحوا يهينون أديان اليابان، بل بدؤوا يرمون بعضهم بالهرطقة والجحيمية لاختلاف عقائدهم في يسوع، فتسببوا في نشوب حربٍ أهلية، لا تقل بشاعة عن تلك التي فجّرتها الرابطة الكاثوليكية، فعمّ الدمار والخراب، ومحق الدين المسيحي من الوجود في حمامٍ من الدم.

صدم اليابانيون بهذا الفهم للدين، وأغلقوا امبراطوريتهم في وجه بقية العالم، وباتوا ينظرون إلينا وكأننا وحوش كاسرة، شبيهة بتلك التي قضى عليها الإنجليز، وطهّروا جزيرتهم منها، وحين طلبت حكومتنا التواصل معهم واجهونا برفضٍ صلب لا رجوع عنه. العالم بأسره يقطع لنا الدليل على أنه لا جدوى من ممارسة التعصب، ولا أصلاً من الدعوة إليه”

كان اليابابنيون ينتظرون دعاة وهداة، ولكنهم فوجئوا بمجيئ قضاة يملكون أبواب الجحيم، وبدلاً من أن يقدموا قيمة مضافة من التراث المسيحي الغني بالمحبة أضافوا قيمة شقاء، وحشروا الناس بين الإيمان بالنبوة الوافدة أو اختيار طريق السعير!!!

طبعاً فإن اليابانيين فيما بعد انتقموا من هؤلاء المبشرين شر انتقام في يوم مشهود عام 1622 م على يد الملك الياباني هيديوشي الذي أعلن ان المبشرين متآمرون قدِموا من الخارج، وسيدفعون ثمن تهجمهم على آلهة اليابان!

لقد شرح فولتيير في كتابه أحوال الأمم التي تجاوزت عقيدة احتكار الخلاص، وباتت تؤمن أن الله للجميع، وتحدث بإعجاب عن الصين وروسيا في قبول الأديان الأخرى حتى إنه شرح بإسهاب ان الدولة العثمانية تحتضن عشرين ديناً في ثناياياها وأنها باتت مستعدة لقبول التنوع الديني وأن السلطان نفسه هو الذي يتوج البطاركة في مملكته وهم على غير دينه وعلى غير ملته.

كانت رسالة فولتيير بسيطة وسهلة وهي أن علينا أن نخرج من هذه القوقعة المريضة وننطلق إلى عالم آخر، يمتاز بالحب والتسامح، ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله.

ويشيد فولتيير برسالته بالدول الجديدة وشكل بناء العالم الجديد بعيداً عن أوهام التعصب، ويخص منها كارولينا وفلادلفيا وبنسلفانيا، وهي ولايات أمريكية قبل قيام الاتحاد الأمريكي ويقول هذه الدول ستربح المستقبل لقد وضعت أنظمة تسمح للناس باختيار ما يشاؤون، ومنعت الدولة من التدخل في حياة الناس، ومنعت أي فريق من احتكارالخلاص، وبات الجميع يصلون كما يشاؤون، وأكد فولتيير أن الله قد منح الحق الكامل لكل إنسان بالوصول إلى الجنة عبر الطرق التي يختارها ويريدها، ولم يفرض على الناس سلوك الطريق التي يريدها الكهنة!!

ثقافة الكراهية ليست مجرد معلومات غيبية غبية نستمعها عند المذبح في صلاة الآحاد، ولا هي مجرد ترانيم نقرؤها في مزامير داود ولا هي كذلك مجرد روايات نرويها في خطبة الجمعة، إنها في الواقع كارثة موت، ستحملك على الكراهية في الآخر، ويمكن ببساطة ان تجعب من الهائجين مشروع انتحاري ينتقم للإله من العصاة المارقين المتمردين الذين لا يقبلون هديه ونوره.

لقد قيل لفولتيير مراراً مالك ولاحتكار الخلاص؟ ولماذا ترغم الله ان يدخل ملكوته من لا يحبهم؟؟؟ هذه نصوص أنزلها الرب، لا اجتهاد فيها، وهي تتصل بيوم الدينونة وحين نكره إنساناً على اعتقاده الفاسد فنحن لا نفعل أكثر مما فعله الرب، وهي مسألة تختص بيوم الملكوت فلماذا يا فولتيير تقحمها في الدنيا؟؟ نحن نستطيع أن نتعايش ونتجاور متحابين أو متكارهين، فليس كل البيوت تعمر بالمحبة!!

يصرخ فولتيير غاضباً: إن الحق في التعصب حق همجي إنه حق الضباع!! بل يفوقه بشاعة، الضباع تمزق بانبابها لتأكل أما نحن فقد أفنينا بعضنا من أجل دقة تأويل نص في الكتاب المقدس!!

ويشير فولتير إلى الواقع الذي تعيشه إسبانيا وفرنسا وإيطاليا على وجه التحديد بأنه ينوس بين اتجاهين: (داعشي وسلفي) الأول: الإيمان أو السيف!! وهذا في الواقع مخجل للإنسانية، يلغي الإيمان كله ويكرس احتقار الإنسان، أما المذهب الثاني فهو آمن بما شئت ولكنني سأكرهك واحتقرك حتى تدخل في إيماني، آمن وإلا أبغضتك.. لن أحبك أيها المسخ وأنت تحاد الله ورسله؟ سأكرهك بقدر إيماني وسأؤذيك بقدر ما أستطيع حتى تدخل في الدين الحق!! وإلا ستكون مكروهاً من جيرانك ومقاطعتك وأهلك!!

في الرد على هذا التساؤل كتب فولتير:

عنما تذهب سفيراً إلى ألمانيا أو السويد أو أو الدنمارك أو روسيا هل ستقول أمام الصدر الأعظم: جلالتكم ستكتوي بنار جهنم إلى أبد الآبدين لأنك على غير عقيدة الحق؟ أي منطق هذا؟؟ فإذا كنت تراه عدو الله فلماذا تذهب إليه أصلاً؟؟ وأي علاقات ناجحة سنبنيها لبلادنا ونحن نعتقد في الآخرين هذا؟ أي امرئ نستطيع ان نعاشر؟ أي واجب من واجبات الحياة المدنية سننجز ونحن نعتقد بانا نتعامل مع محكوم عليهم باللعنة الأبدية؟؟

هل هكذا تتصورون الله؟؟؟ هل سيقول الله في الآخرة لكل عظماء التاريخ وحكمائه: كونفوشيوس وصولون وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وتيطس وأبقتاتوس وغيرهم من الحكماء والعظماء.. ابتعدوا عني أيها المسوخ!! .. اذهبوا إلى جحيم الأبد… أما أنتم يا أحبائي جان شاتيل رافاياك دامايان كارتوش (وهم مجموعة من القتلة الذين سفكوا دم البروتستانت باسم الرب وكانوا مشهورين بالتقوى) أنتم يا من صحت عقيدتكم وصلاتكم اجلسوا عن يميني وشاركوني في ملكوتي وغبطتي!!

ليس جدل فولتير إلا جدل الساعة التي نحن فيها، وليس تناوسنا في جدل التعصب الشرقي إلا جدل عصر الأنوار نفسه، إنها القضايا ذاتها والأوهام ذاتها والكفاح ذاته من أجل الحرية والمساواة…

ولكن .. يا رب .. هل قدرنا أن نستمر كذلك الأربعمائة عام التي أمضتها أوربا في الصراع؟؟؟ ألا نستطيع ان نقرأ التاريخ ببصيرة.. ونختصر بعض القرون…..

Related posts

سؤال الجحيم وجواب من محمد إقبال

drmohammad

الجريمة والعقاب – تحت قوس العدالة

drmohammad

د.محمد حبش- وأخيراً.. قانون للأحوال الشخصية!! 26/6/2009

drmohammad