مقالات

الماضي المقدس والمستقبل المقدس

ولا يضيرني أن يكون الماضي مقدساً ولكن الأهم هو أن يكون المستقبل مقدساً، وحين نتحدث عن الماضي الذهبي المجيد فإن من العار أننا نفشل في صناعة حاضر مجيد، وبدلاً من مواجهة الحقيقة كما واجهتها الأمم الناجحة وصنعت نجاحها من جديد فإننا نكتفي بالوقوف على الأطلال واتهام الحاضر بأنه فشل في تقليد الماضي المقدس.

ولكن ما هو المقدس من الماضي؟

لا توجد أمة تعبد تاريخها كما تفعل هذه الأمة، مع أن جوهر الإسلام هو التوحيد وهي صفة تختص بالخالق سبحانه، ولا يمكن إطلاقها على أي من الناس، ولكننا ذهبنا إلى تقديس كل شيء، فالصحابة مقدسون والفتوحات مقدسة وإجماع الفقهاء مقدس والسلف كله مقدس والخلفاء مقدسون والتابعون مقدسون والرواة مقدسون.. ولدينا قائمة لا تنتهي من المقدسات بعضها بدليل توقيفي وبعضها بدليل توفيقي.

ولكن ما الضير من تقديس الماضي؟ وما المانع أن نكون أكثر من الأمم في تقديس ماضينا؟

ننتمي إلى رسول شجاع وصريح وواضح جاء لينهي النبوات النبوة ويفتح عالم المسؤولية، وأعلن نهاية العجائب والخوارق وبداية عصر العلم والعقل، ونهاية عصر الغيب وبدء عصر الشهادة، وقدم نفسه للعالم على صورة بالغة الوضوح: هل كنت إلا بشراً رسولاً.

لا يعلم الغيب، ولا يدري ما يفعل به ولا بكم، وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.

لم يقدم نفسه للعالم على صورة مسيح يمشي على الماء ويسبح في الهواء ويلمس الأعمى فيبصر ويلمس الكسيح فيمشي ويمسح الابكم فينطق، لقد كانت صورته أبعد ما تكون عن هذه العجائب، وصرح انه لو كان يعلم الغيب لاستكثر الخير وما مسه السوء.

وفي إشارة مقصودة فإن القرآن الكريم سجل عدداً من مواقف العتاب القاسية للرسول الكريم، فعاتبه يوم عبس في وجه الأعمى، وعاتبه حين فكر بالاستجابة لما عرضوه عليه من متاع الدنيا وإن كانوا ليفتنونك عن الذي اوجينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلاً إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا وكيلاً، وعاتبه أشد العتاب على زواجه من زينب بنت جحش بصيغة صادمة: وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه… والآيات بهذا المعنى كثير.

هذا هو محمد في القرآن رجل كفاح وزند وعقل وعمل، ولكنه في الأسطورة غير ذلك فهو أول خلق الله ونور عرش الله وقد خلق قبل آدم !! ومن نوره خلقت الكائنات وبه تشفع آدم، وإن من جوده وخزائنه الدنيا والآخرة، ومن علومه اللوح والقلم، ويوم مولده زلزل إيوان كسرى وغاضت بحيرة ساوى وانشق القمر، وقد ولد مختوناً مسرورا وكان لا يتثاءب ولم يكن له حين يمشي، ويمضي عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل إلى وصف الرسول الكريم بالصفات التسعة والتسعين فيعد من أسماء النبي الكريم أنه الرحيم والودود والغفور والرحمن والجبار والقهار والخالق والمصور والله نفسه، ويستدل بالآية إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، من يطع الرسول فقد أطاع الله…

ولكن هل كان هذا الغلو في وصف الرسول مفيداً للناس؟؟

إن القرآن الكريم نهى أهل الكتاب بوضوح عن الغلو في دينهم، واعتبر مقولتهم عن المسيح عليه السلام غلواً ومبالغة ودعاهم الى الوسطية والاعتدال، وكان حرياً بنا إذ ننتمي إلى دين هذه مبادئه أن نقيم صورة النبي الكريم في مكانه من التسامح والرحمة والاعتدال بدلاً من افتراض العجائب ورفض الصافت البشرية في الرسول.

ولكن لماذا نتحدث بهذا الوضوح عن مكان الماضي في حياة الأمة

لقد بات من المؤكد اننا لن نستطيع التقدم إلى الأمام حتى نمارس النقد الحيوي البناء للماضي لتحديد ما يلزم اتباعه وما يلزم اجتنابه، وما ينفعنا وما يضرنا من التاريخ، ولكننا نواجه دوماً بسيل من الاتهامات، ويتم القول بان الإسلام الحقيقي هو الالتزام بنهج السلف وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، وحين نمضي لاختيار المناسب لزماننا في النظم والإدارة والاقتصاد والسياسة واللباس والغذاء والدواء والطهارة فإننا نواجه بالاتهام المعتاد: أين هو دليلكم من فعل السلف واختياراته، وبعد كل حوار عقلاني ننتهي ببالمقولة: هذا هو الإسلام إما أن تأخذه كله أو تنبذه كله!!

وفيما بعد ضم الصحابة كلهم إلى دائرة القداسة وبات تناول صحابي واحد بنقد بناء يستدعي غضب الأمة وجماهيرها ومنابرها غضبة مضرية تهتك حجاب الشمس أو تمطر الدما..

ومن العجيب أنهم يعتبرون نقد الصحابة عدواناً على الدين، وفي الواقع فإنه لا يوجد نص مارس النقد الشديد للصحابة أكثر من القرآن الكريم، وفيه سورة المنافقون وسورة التوبة، وهي السور الفاضحة فضحت الذين كانوا بين الصحابة فمنهم الذين كانوا يؤذون النبي ومنهم الذين يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا، ومنهم من يقاتل ابتغاء الغنائم ومنهم من يلمزك في الصدقات، حتى قال عبد الله بن مسعود ما زالت سورة التوبة تنزل في فضح المنافقين ومنهم ومنهم، حتى ظننا أن لا يبقى منا أحد!!

إن ما تتجه هذه المقالة لتقريره ان المقدس المعصوم في الإسلام هو الله وحده، وأن البشر جميعاً في أقوالهم وأفعالهم محل للصواب والخطأ، والرسول الكريم نفسه ملأ تاريخنا بنصوص صريحة شجاعة يقول فيها: كنت قد أمرتكم والآن أنهاكم، وكنت قد نهيتكم والآن آمركم، وكنت قد أردت شيئاً فبدا لي الحق في سواه، وكان يأمر بالشيء ويقسم على أنه الحق، ثم يبدو له غير ذلك فيقول: إني والله لا أحلف على يمين ثم أجد غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي هو هو خير وكفرت عن يميني.

نقرأ التاريخ كله، ونتابع باهتمام وعي السلف وفهم السلف وجهد السلف، ولكن لا ينبغي أن نتحنط في شيء من ذلك، فالشاهد يرى ما لا يراه الغائب والرسول الذي كان يأمر بالشيء ويحلف عليه الأيمان كان يتراجع عنه عندما يتغير الظرف والزمان والمكان، والقرآن نفسه الذي كان يحكم بالأمر في مسالة كان يقوم بنسخها حين يظهر أمر جديد، ومع أنني لا أميل للمبالغة التي ذهب اليها ابن الجوزي وابن حزم بالقول بنسخ 225 آية في القرآن المسطور ولكنني أذهب إلى القاسم المشترك بين الصحابة والسلف والفقهاء وهو القول بنسخ 21 آية من القرآن الكريم نفسه في حياة الرسول.

إنه الماضي… بكل ما فيه، وأجمل ما فيه وأروع ما فيه القرآن والسنة، ولكنه الماضي، وحين يكرر القرآن الكريم علاقة المسلم بالتاريخ يبسطها في صورة مدهشة، وبعد أن يحدثنا عن تاريخ الأنبياء في سورة البقرة وتحديداً إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وينص تحديداً على ما أوتي النبيون من ربهم يقول بمنتهى الوضوح: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.

إنهم أنبياء الله ورسله، وليسوا مجرد صحابة او فقهاء.. إنهم أنبياء ومرسلون ولكنهم في نظر القرآن الكريم أمة قد خلت، نقرؤهم للاعتبار والادكار، نوراً يهدي لا قيداً يأسر.

إنهم الأنبياء وصحابتهم وكتبهم وصحفهم وألواحهم وعلماؤهم وفقهاؤهم، يقدمهم القرآن الكريم في غاية التبجيل والاحترام ولكنه يكرر مرتين بعد رواية أخبارهم: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.

متى سنملك الجرأة والشجاعة ونحاكم التاريخ الإسلامي أيضاً وفق مسطرة القرآن وقواعده، فنتخذه نوراً يهدي لا قيداً يأسر، ونملك الشجاعة والجرأة أن نمارس النقد البناء بشجاعة واحترام، دون أن نتهم بالتآمر على الأمة والزندقة في أحكامها والطعن في الثوابت، متى نستطيع القول عن جيل السلف كله من صحابة وتابعين وفقهاء مثل ما قال القرآن عن الأنبياء: إنهم أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.

ويل لأمة تتقن تقديس ماضيها ولا تعمل لتقديس مستقبلها.

Related posts

د. محمد حبش- ابن تيمية وابن عربي… حكاية من دمشق 12/1/2007

drmohammad

د.محمد حبش- أوروبا…. الطريق إلى الإسلام 16/2/2007

drmohammad

د. محمد الحبش- هموم…. في مناسك الحج الأعظم 16/11/2007

drmohammad