مقالات

د.محمد حبش- حوار فنلندا: من احتكار الخلاص إلى احتكار الحياة 8/12/2006

كان حدثاً سعيداً بالنسبة لي أن أتحدث يوم الجمعة الماضية مرة أخرى في قاعة جامعة هلسنكي العريقة، بعد أن سعدت بزيارتها قبل سبع سنوات بدعوة من العزيز آرنة تويفانين مؤسس المعهد الفنلندي لدراسات الشرق الأوسط وهكي بالفا مدير المعهد، وألقيت فيها عدداً من المحاضرات، حيث كنت أشعر بالفخر وأنا أنظر في كفاح الفيلسوف الفنلندي الكبير المستشرق أوغست فالين الذي ننظر إليه بإكبار في الشرق الإسلامي ونناديه بالاسم الذي اختاره حباً بالعرب والإسلام وهو الحاج عبد الولي، حيث اختارت جامعة هلسنكي العريقة أن تتصدر صورته بالكوفية والعقال العربي صدر قاعة عظيمة فيها سميت باسمه، ولا أشك أبداً أن فالين هو أحد الجسور العظيمة التي انتصبت بين الشرق والغرب تحمل روح الحضارتين ليكمل بعضها بعضاً، وهو يذكرني بكلمة الفيلسوف الكبير اسحق نيوتن الذي قال: إن الإنسان بنى كثيراً من الجدران وقليلاً من الجسور، وأرجو أن أكون هنا على خطى فالين في بناء الجسور بين الشرق والغرب.
أوغست فالين وتوماس كارليل ولامارتين وتولستوي وغوته وبرنارد شو وزيغريد هونكه وروجيه غارودي ومراد هوفمان والأمير تشارلز وغيرهم من أعلام الفكر الأوروبي، أنصفوا الإسلام وساهموا في شرح حقائقه للعالم من أجل تحقيق الإخاء الإنساني في الأرض.
لقد اخترت أن أتحدث تحت عنوان كبير أطلقته هنا قبل سبع سنوات وكتبت عنه فيما بعد عشرات المقالات والدراسات وهو باختصار: احتكار الخلاص.
وباختصار فإنني أعتقد أن احتكار الخلاص هو أكبر أمراض الأمم وأتباع الأديان عبر التاريخ، وهو بالتالي أحد الأسباب الهدامة التي تحول دون قيام تكامل حقيقي بين أبناء آدم في الأرض، وقد جاء الأنبياء ليحاربوا ذلك وهو ما ابتليت به الأمم حيث تم تكريسه كما لو كان أحد الثوابت التي لا تتخلف في كل دين.
لقد ذكر الإسلام مسألة احتكار الجنة واعتبرها مباشرة واحدة من الأخطاء الكبرى التي انجرف إليها أتباع الديانات وذلك في قوله تعالى: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وأخبر القرآن الكريم بصيغة استنكار شديد: تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
وحين قالت طائفة من المسلمين مثل ذلك، واستخدمت نفس الأماني رد عليهم القرآن الكريم بقسوة في قول الله تعالى: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً.
ولا تحتاج هذه الآيات البينات إلى أي تأويل أو استدراك فهي واضحة وضوح الشمس وهي تدفع عن الإسلام أي تهمة في احتكار الخلاص قد يصمه بها أعداؤه.
إن الإسلام لم يتردد أبداً في النص على أن الله سبحانه هو رب العالمين، وأول آية في القرآن الكريم هي: الحمد لله رب العالمين، وآخر آية في القرآن هي أن الله رب الناس ملك الناس إله الناس، فلم يقل رب المسلمين ولا العرب ولا المؤمنين بل جعل سائر الخلق دون استثناء عيالاً له ، تماماً كما قال الرسول الكريم : الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
إن الله واحد ولكن أسماءه كثيرة والحقيقة واحدة ولكن الطرق إليها كثيرة والإشراق واحد ولكن الأديان متعددة، والحب واحد ولكن القلوب كثيرة.
وفي القرآن الكريم تكرر مرتين قول الله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
بل إن القرآن الكريم اشتمل على أربع عشرة مرة تكرر فيها قول الله تعالى: مصدقا لما بين يديه، فهو لم يقل: مبطلاً لما بين يديه أو ناسخاً لما بين يديه أو ناسفاً لما بين يديه، أو ملغياً لما بين يديه، بل قال مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه، وهذا المعنى يشمل التوراة والزبور والإنجيل من الكتب السابقة ويشمل الحكمة والعلم مما يتطابق مع المقاصد العظيمة للدين الحق.
ليس لدي أدنى شك في أن الإسلام لله هو دين الله للعالم، وأن التوحيد هو حق الله على العبيد، وقد شرحه القرآن بالآية: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وكذلك قوله: ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً.
ومع أن احتكار الخلاص جدل يختص بالشأن الأخروي ويفصل فيه الله سبحانه ولكن دعني أصارحك بأن آثاره السيئة تفسد الأرض وتنشر فيها الفساد، وربما كانت معاناة العرب والمسلمين منذ نحو تسعين عاماً من الصراع مع الصهاينة نتيجة هذه الفكرة المجنونة التي جعلت اليهودي يعتقد أنه شعب الله المختار وأنه الوحيد المستحق للخلاص والجنة وأن شعوب الأرض غوييم خلقوا لخدمته والطبطبة على رغباته، ومن المؤلم أن هذا القدر من الشر الذي هو نتيجة انحراف ديني فاضح يتبناه اليوم تيار غير قليل من مسيحيي الغرب وفق تفسير ظاهري لأخبار العهد القديم، وإذا كان اعتناق اليهودي لفكرة احتكار الخلاص مفهوماً فإن ما يستعصي على الفهم هو اعتناق الأمريكيين المتصهينين لهذا اللون من التفكير الظالم ولحساب اليهود فقط، وبالتالي تجييش طاقات أمريكا الجبارة من أجل إنجاز رغبات الرب بالاهتمام بشعبه وهيكله وشمعدانه وخلاصه على حساب الشعوب الأخرى!!
ولا شك أن الحديث عن احتكار الخلاص في الجانب اللاهوتي هو بعينه ما قادهم اليوم من حيث يريدون أو لا يريدون إلى احتكار الحياة واحتكار الحضارة ذلك أن المرء عندما يوقن أن الله لا ينظر إلى عمل الآخر فما الذي يدعوني إذن إلى حبه واحترامه والإشفاق عليه، وعلينا أن نتذكر كيف انصرف اليهود إلى استباحة الربا والزنا مع غير أبناء دينهم، على الرغم من تحريم ذلك في دينهم والحجة كما هو معلوم أن الآخر هذا غير مؤمن وهو بالتالي غير جدير أن يدخل إلى الملكوت الإلهي.
وهنا أستعين بكلمة الصديق العزيز بول هاك صاحب كتاب التجديد الديني في سوريا خلال حوا مفتوح هنا: إن عقيدة احتكار الخلاص هي التي قادت الأمريكيين للتورط في احتكار الحياة والحضارة عن الشعوب الأخرى.
لست مضطراً هنا أن أذكر صيحات الفرسان الذين شاركوا في حروب الفرنجة على الشرق ودوافعهم الإقصائية التي كانت تحركهم تحت عنوان مواجهة الكافر الذي ليس أهلاً للخلاص الأبدي على يد المخلص، وهو ما رأيناه في الصيف الماضي عندما أمعنت أمريكا في منح إسرائيل حق قصف لبنان كله بسهله وجبله وبره وبحره ومسلميه ومسيحييه وسنته وشيعته تحت عنوان جلي :حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وعنوان خفي: حق الشعب المختار أن يلهو بالأرواح والشعوب الأخرى!!
حين يصر الأمريكيون على الدفاع عن حق إسرائيل في الوجود ولا يستشهدون بأدنى كلمة عن حق الفلسطينيين في الوجود والحياة أليس هذا لوناً من احتكار الحياة؟ وحين يتحدثون بكل لؤم عن حق إسرائيل في تحرير أسيريها ولو جر ذلك إلى حرب كاملة وأنهار من دماء الأبرياء ولا يتحدثون أبداً عن حق عشرة آلاف فلسطيني أسير في الحرية والحياة فكيف يمكن أن تقنعني أنهم لا يؤمنون بأسطورة الشعب المختار؟ وحين يرفض بولتون (الآفل) حتى مجرد إدانة شكلية لجرائم إسرائيل في بيت حانون في مجلس الأمن فكيف يمكن تفسير ذلك؟؟
وأخيراً دعنا نتأمل في تصريح للبيت الأبيض: إن واشنطن تعتبر إقدام قطر على دفع رواتب القطاع الصحي وقطاع التعليم للفلسطينيين عملاً مخالفاً للاتفاقيات الدولية!!
وهكذا يصبح احتضان المشافي والجامعات لشعب فقير عملاً شائناً إرهابياً لسبب واحد وهو أنه يأتي خلاف إرادة الشعب المختار، فهل يمكن تسمية ذلك بأقل من احتكار الحياة؟.

Related posts

د.محمد حبش- المرأة بين عفاف الشرق وتحرر الغرب 11/5/2007

drmohammad

د. محمد حبش- نحو حصانة فكرية لخطاب التجديد … 21/9/2007

drmohammad

التيارات الإسلامية ومسائل المواطنة والدولة والأمة… سؤال الأمة

drmohammad

Leave a Comment