Uncategorized

صادق جلال العظم… دعوة إلى الإنصاف في ذكرى رحيله الخامسة

قد يكون غريباً أن يكتب كاتب إسلامي عن مفكر علماني صريح كصادق جلال العظم، ولكنني أعتبر الكتابة في هذا الشأن مسؤولية دينية وتاريخية وأخلاقية، خاصة أننا كنا جزءاً من حملات تنمر ظالمة ضد هذا المفكر النبيل، وقد بات من الواجب أن ننصف صادق جلال العظم رمزاً من رموز الكلمة والحكمة في سوريا وداعية عميقاً من دعاة التنوير والفكر الحر.

وقد جمعتني مع صادق جلال العظم صلتنا المشتركة مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي جاء مرات عدَّة إلى دمشق 2008 كصحافي ومنتج سينمائي لإعداد فيلمه عن حوار الشرق والغرب (After Rome) ومع أن الرجل اختارنا كإسلامي وعلماني، لتقديم وجهين متناقضين، ولكنه حين أنجز فيلمه أدرك أننا نشرب من ذات الجدول، وأن دفاع صادق عن الحضارة الإسلامية لم يكن أقل من دفاعي عنها، وأن دفاعي عن الحريات لم يكن أقل من وعيه بالحرية.

كنت واحداً من الجمهور السوري الذي تابع في التسعينات حواريات صادق جلال العظم مع عدد من الشيوخ المشاهير في قطر والشام، وكانت الصورة الهائجة التي تم تلقيننا إياها أن الرجل يمثل الشيطان في حربه مع الرحمن، وأن الأمة مطالبة بغضبة مضرية ماحقة لا تبقي من العلمانية حجراً على حجر، وتعيد للدين عافيته وكرامته في مواجهة الطاغوت!

ومن المؤلم الاعتراف أن هذه الجماهير التي ذهبت إلى تكفير الرجل، بمن فيهم خطباء المنابر الغاضبون لم يقرؤوا له حرفاً واحداً ولا يعرفون حتى عناوين كتبه، ولكنهم اندفعوا بروح الغوغاء الغاضب يطالبون بالويل والثبور وعظائم الأمور لرجل طرح تساؤلات جدية في مسائل الغيب والاعتقاد، ولم يقدم أي أجوبة حاسمة بقدر ما أثار السؤال.

في كتابه نقد الفكر الديني وهو الكتاب الذي عرضه قبل نصف قرن لمحاكمات قضائية في لبنان، في آخر محاكم العصور الوسطى، باعتباره تجديفاً وهرطقة، كان صادق جلال العظم يطرح تساؤلات بسيطة في مواجهة طوفان من التأويل الميثولوجي لقصة الخلق، وكان يتساءل منطقياً السؤال ذاته الذي طرحته الفلسفة الإسلامية على يد ابن سينا والفارابي والكندي وأبو العلاء المعري عن معنى العدالة الإلهية في عقاب إبليس وهو مخلوق للإضلال والإفساد، فالرجل خلق ليفترس، ولا يمكنه أن يكون إلا هكذا فكيف يجري عليه القلم؟

كانت هذه الأسئلة في عصر الحضارة الإسلامية أمراً عادياً تماماً وكان يمكن أن يستضيفها المأمون في بيت الحكمة ويعقد لها الرشيد المناظرات مع أبي حنيفة بكل احترام وتقدير ويجري له الخليفة المعتز والخليفة المعتضد جرايات وافية للإفادة من بحثه وقلقه وسؤاله…

وكان من الممكن في عصر الحضارة الذهبي أن يعتبر كتاب الرجل لوناً من تفسير قوله تعالى على لسان إبراهيم حين طالب الله تعالى بالبرهان والدليل، وقال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، وهو في سياق آخر لا يزيد عما طالب به موسى ربه بقوله: رب ارني أنظر إليك…

لا أدري لماذا بات الحوار في العقيدة بالذات عدواناً على الله، ولماذا باتت الأسئلة الفطرية الطبيعية تزلزل عرش الرحمن وتستوجب الحكم بالردة والزندقة مع أنها في الحقيقة تدور تماماً في فلك قول الله لا إكراه في الدين، وتقع تماماً في محور الىية ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم.

وبعيداً عن لاهوته في نقد العقل الديني الذي يثير بلا شك أشد الغضب في السلك الكهنوتي ولكنني أشير إلى أهم كتاب في هذا الباب للمفكر السوري الكبير صادق جلال العظم وقد كتبه بالإنكليزية وترجمه إلى العربية فالح عبد الجبار وصدر عن دار المدى بعنوان الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية 2007، وفيه يتناول الدكتور العظم مباشرة السؤال الواضح هل يمكن أن يكون مصدر المذهب الإنساني إسلامياً أو نابعاً من التراث الخاص وفق تعبيره، واختار على الفور الجواب بالإيجاب، مؤكداً أن القيم الإسلامية تحتمل هذه الحقائق، وأن المنطق الغربي المتعالي اللاتاريخي والمسكون بوهم احتكار الحقيقة لا يصمد أمام التحليل العلمي، ويؤكد بشدة ان قيم حقوق الإنسان والحريات عموماً وإن كانت أوروبية المنشأ وتنسب إلى عصر الأنوار ولكنها باتت اليوم تراثاً إنسانياً هائلاً يشترك فيه البشر جميعا، وأنه بات تراثاً عالمياً تحميه القوانين الدولية.

ولكنه يؤكد بالطبع ان الوصول إلى هذه الحقيقة في أي تراث خاص ومنه التراث الإسلامي بالطبع لا يتم عن طريق اتباع أعمى للتراث بل يتم عبر انتقائية (منهج اختيار) بصيرة واعية.

ويطالب العظم في كتابه بوضوح بمواجهة صريحة مع الاتجاهات اللاإنسانية التي تسللت إلى التراث، ويعلن إيمانه العظيم بقدرة الإسلام على التطور منهاجياً وفقهياً، ويعدد بشكل واضح الجوانب التي لا تحتمل التأجيل في الإصلاح الإنساني الإسلامي ويعتبر انها لا تزيد عن خمسة مطالب يمكن من خلالها إحياء المذهب الإنساني في الإسلام:

  1. الإلغاء القانوني والفقهي لنظام أهل الذمة بكل توابعه السياسية التي أصبحت غير مقبولة على الإطلاق في عصر المساواة والحرية، ويؤكد هنا على انتهاء هذا الأمر من الناحية العملية في كل العالم الإسلامي ولكن لا بد من مواجهة المصدر الفقهي لهذه الممارسات وإنهاء دعوات المطالبة بإحيائه من جديد.
  2. تطوير قانون العقوبات الجسدية والتحول إلى العقاب الإصلاحي، ويؤكد أيضاً أن الأمر قد تم من الناحية العملية ولكنه لا يزال مطلباً أساسياً لجماعات الإسلام السياسي.
  3. التخلي عن نظرة تصنيف البشرية على أنها العالم الكافر الرافض للإيمان والمسكون بالقيم المظلمة والمتوحشة
  4. وجوب تخلي الشيعة بالذات عن مبدأ ولاية الفقيه والاستمرار في النظام الجمهوري الشعبي الذي يتناقض كلية مع ولاية الفقيه
  5. وجوب تطوير فقه المرأة، والتخلي عن السلوكيات التمييزية التي تحدد المرأة بوصفها عورةً يجب إخفاؤها وتغييبها، أو أنها كائن ناقص لا يستحق المساواة.

وفي الواقع فإنني أجد نفسي متفقاً تماماً مع كتاب الدكتور العظم، وربما نختلف في نقطة واحدة وهي أن الوصول إلى هذه الأهداف ممكن تماماً وفق مصادر التشريع الأساسية، وأن مناهج الفقهاء الأصوليين قادرة على تحقيق هذه الأهداف دون مصادمة حدية اعتقادية مع المجتمع المتدين.

وفي حفل تكريم الدكتور العظم قال إيلارت هيرمس: إن الإقرار بأن العالم العربي والعالم الغربي ينتميان إلى حقل إنساني مشترك هو ما يتوخى الدكتور العظم إيقاظه في العالمين العربي والغربي، وهو ينشر هذه الفكرة ويذود عنها بلا هوادة ولهذا بالذات فهو يمنح اليوم جائزة الدكتور ليوبولد لوكاش لعام 2004

رحل صادق العظم مسكوناً بمرارة الحجود، وقد تعامل الواعظون مع نقده العلمي على أنه مؤامرة ماسونية صهيونية على الإسلام والعروبة، وقد كان بالإمكان طرح أسئلته وإجاباته في سياق الحيرة التي مارسها فقهاء الإسلام الكبار واعتبروها أحد أبواب العرفان الإلهي.

رحل صادق جلال العظم وهو من أشد المناصرين لهذا الشعب في ثورته المشروعة، وأعلن أنه مع هذه الثورة سواء تأسلمت أم تعلمنت فهي في النهاية رسالة حرية في مقارعة الاستبداد وهذا يكفي!

رحل صادق العظم 11/12/2016

Related posts

وداعش تصلب أسيرا. دعوة لمراجعة تطبيق الحدود

drmohammad

رمضانيات-صلة الرحم وإجتماع العائلة في رمضان-نشرت عام 2010

drmohammad

الفقهاء الفضائيون

drmohammad