لو أنك أعطيت مهندس مدن صورة طبوغرافية للجزيرة العربية وطلبت إليه أن يختار مواقع لبناء مدن فيها فإنه سيبحث بالطبع عن منابع الأنهار ومساقط الغيث والسهول المعتدلة والأراضي الزراعية الخصبة، وبكل تأكيد فلن تكون شعاب مكة في خياراته أبداً، ولو طلبت إليه أن يحدد أماكن لبناء بلدات أو قرى فإنه سيختار آلاف الأماكن دون أن يخطر بباله أن يختار شعاب مكة، وربما لن يخطر له أن يبني فيها نزلاً أو خانقاه ولا حتى مدجنة، فهذه الأرض جغرافياً لا تصلح لشيء من ذلك فهي محض شعاب قاسية في جبال سوداء ليس فيها شجر ولا ماء ولا سهول ولا رواء، وهي باختصار وفق تعبير القرآن الكريم: واد غير ذي زرع، وفي مقارنة جغرافية سريعة سترى أنها أشد أرض الله حراً وأقساها قيظاً، وأحرنها درباً، فما الذي جعلها إذن قياماً للناس ومثابة وأمناً؟ وما الذي جعلها أولى الأرض بنور السماء، وآوى أفئدة الناس إليها حتى جاؤوها من كل فج عميق، وحتى صارت يجبى إليها ثمرات كل شيء، وتأتيها أمم الأرض من أبيض وأسود وأصفر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، لتصبح سنوياً أكبر محج للبشر في الأرض في مشهد لا يتكرر في أي مكان في العالم، ولا تجرؤ قوة في الدنيا أن تنافسه أو تساميه أو تقاربه؟
بدأت الحكاية يوم أمر الله إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج في أرض الحجاز وحين قال إبراهيم يا رب وأين يبلغ صوتي؟ لم يكن في تلك الأرض بشر لا شجر قال يا إبراهيم عليك الأذان وعلينا البلاغ، وهكذا كان، وأذن إبراهيم في الحج وجاءه الناس رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق!!.
ووفق الصحيح من الرواية فإن ماء زمزم لم يكن قد تفجر آنذاك، فقد كانت زمزم هدية من الله تعالى للحج أكرم بها هاجر في كفاحها لتأمين قطرة الحياة في بداية مشروع كبير لبناء مكة المكرمة، وهي شفاء سقم وطعام طعم، لا تجف ولا ترم، وتروي الحجيج الأعظم.
بالمقارنة مع أنماط الحج السائدة لدى الأمم فإن فرادة الحج الإسلامي تبدو في جوانب كثيرة فهو قد شرع تاماً ولم يسجل فيه بعد ذلك أي اجتهاد، فيما تضيف الأمم وتحذف كثيراً من فصول حجها واعتمارها، وهو محسوم الزمان والمكان والنسك، فيما تحتمل أنماط الحج السائدة لدى الأمم ألف اختلاف واختلاف، فهي تتعدد مكاناً وزماناً وطقساً، ولكن هنا لا يوجد حج لغير مكة، ولا يوجد توقيت له غير ما عليه إجماع الأمة، ولا يوجد كلام حول ثبوته على كل مسلم قادر عليه على سبيل الوجوب.
من جانب آخر فإن الحج مشقة وتكلف وليس متعة وسياحة، وهو لون من الجهاد، جهاد لا شوكة فيه، وتجري مناسكه في أشد بلاد الله حراً وقيظاً في ظلال جبال سود قاسية، فيما تختار الأمم عادة حجها في سهول خصيبة عند مساقط الأمطار ومصاب الأنهار، في أحسن البلاد اعتدالاً ولطفاً في المناخ، ففي إيطاليا مثلاً يطير الحجاج في السماء ساعة كاملة فوق الأرض الخضراء لا يشاهدون لون التربة، فيما يطير الحجاج في سماء الجزيرة العربية ساعة كاملة دون أن يشاهدوا في الأرض عرقاً أخضر!! ولكن مع ذلك فإن الحج الإسلامي لا يزال يجمع أكبر حشد من المصلين في الأرض في مكان واحد، بل إن الحرم الشريف يستقبل يومياً نحو مليون مصلٍ على الأقل في أكثر من نصف العام أيام الحج ورمضان والخميس والجمعة، وهي حشود لا وجود لها في أي مكان في الأرض إلا في ظلال البيت العتيق.
وتتكرس مناسك الحج قاسية شديدة لا مكان فيها للرفاهية أو التميز على الناس، فمن الإحرام الذي هو ترك المخيط والمحيط إلى الطواف الذي هو العج والثج، إلى وقوف عرفة ورمي الجمرات وهي مناسك تكلف سنوياً العشرات من الضحايا دون أن يكون لذلك أدنى تأثير على تزاحم العاشقين إلى تلك الرياض السعيدة.
وهنا لا بد أن نشير إلى الأركان الجديدة للحج التي أفرزتها الحضارة وأرغمت عليها الحجاج من غير ما دليل من كتاب أو سنة، كالطواف بين السفارة والوزارة!! واستلام شباك القنصلية!! والسعي وراء المطوف!! وغير ذلك من العناء الذي يعرفه كل من زار المناسك المقدسة في هذه الأيام العصيبة!!
ولكن ذلك العناء كله لم يطمس من روعة الحج وألقه وإشراقه وظلت القلوب تشتاق إلى نسك الحج الأعظم وتشد إليه الرحال بقلوب خافقة وعيون دامعة ووجوه واعدة، ويقدر عدد الواقفين بعرفة يوم الحج الأكبر بأربعة ملايين ولو فتحت مكة حدودها للراغبين لكان العدد يحصى بعشرات الملايين!
لست أنسى ما حييت ذات مساء، يوم كنت في روضة المصطفى قريباً من شباك الحضرة النبوية، حيث كانت وفود الأمم تقبل إلى تلك الروضة الشريفة لتسكب العبرات وتتخير أعذب المناجاة والسلام لتلقيه على النبي الأكرم ، بلغات شتى وألسنة متعددة، كلها يناجيه بالشوق والحب، وكان أكثر ما شدني مشهد وفد من مسلمي البوسنة والهرسك، بوجوههم البيضاء وقد أقبلوا يتخطون الرقاب إلى الروضة الشريفة، كنت أقول أي رسالة يحملها هؤلاء الذين خرجوا من جحيم الموت في سربرينتسا وكوسوفو؟؟ والذين لم يكن هناك سبب لعنائهم إلا انتماؤهم للنبي الكريم ، وكانت تلك الأيام هي أسوأ أيام التطهير العرقي التي ذاقها المسلمون في البلقان في القارة العجوز التي تتبجح بقيم الحريات والديمقراطيات والتعددية ولكنها وقفت تتفرج على مصارع المسلمين، في سلسلة مجازر دموية كان يغذيها بشكل مباشر سيل من الحقد الجارف على كل ما هو إسلامي أو محمدي، وكانت الضريبة التي يدفعونها يومياً تعد بالمئات من القتلى الأبرياء الذين كانوا يتجرعون الموت بسكاكين سادية مجرمة حقود، ويقال لهم كل يوم نادوا محمدكم ليخلصكم من الموت الذي كتبه عليكم قدركم التعيس!!
حين وصل وفد البوسنة كانت عيني تتعلق بهم، وكنت أظن أن دخائل نفوسهم ستفيض بالمرارة والشكوى والأسى، فهل سيقولون أمام قبر الرسول: نحن نموت من أجلك فماذا أعطيتنا؟ وكيف ستدفع عنا غائلة الموت؟ ها نحن نرحل من موت إلى موت، شردتنا موسكو وحاربتنا باريس وذبحتنا بلغراد، وكل ذلك لأننا أمتك، فأين هي وعودك بالنصر والتمكين؟ وأين هي أمتك الخائرة الممزقة، وهل لدى جيوش أمتك ما يدفع عنا الموت القادم من الغرب؟ وإلى متى سنظل نصبر ونقتل ونذبح وأنت نائم في مرقدك؟ وأمتك سادرة في شرادها، ولماذا ولماذا ولماذا؟؟وكنت أتوقع منهم أشد صيحات الشكوى على مراكب الحنق والغيظ، وما كانوا ملومين!
ولكن المفاجأة كانت حين وصل هذا الوفد وهو واحد من آلاف الوفود التي جاءت من البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، وحين اقتربت خطواته من الروضة الشريفة، ذرفت مدامعهم ووجلت قلوبهم، وأقبلوا راغبين حتى دخلوا الروضة المشرفة وهناك وقفوا بغاية الأدب عند روضته وقالوا بخشوع: السلام عليك يا رسول الله، جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته!! كنا ضلالاً فهدانا بك الله، وعالة فأغنانا بك الله، وأعداء فألف الله بك بين قلوبنا، فلك الحمد حتى تستوفي المجد، ولك الشكر حتى ينقضي الدهر، رضينا بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبك رسولاً ونبياً خاتماً، نرجو جوارك في الدنيا وقربك في الآخرة.
نعم لولاك ما ذكر العقيـق ولا سارت على الأشواق نوق
نعم أمشي إليك على جفوني تدانى الحي أم بعد الطريق
إذا كانت تحن لك المطايا فماذا يفعل القلب المشوق
حين كان رسول الله عند خطم الوادي يوم الفتح الأعظم، كان أبو سفيان قد وقع في قبضة النبي حاسراً باسراً لا يملك لنفسه ضراً ولا رشداً، وحين حبسه العباس بخطم الوادي لينظر خيل الله تمر أمامه من جيش الفتح، حتى إذا وصلت كتيبة الحديد من الأنصار وعليهم رجال لا يبدو إلا حدق أعينهم من الحديد قال أبو سفيان للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً!! قال له العباس: ويلك يا أبا سفيان، إنها النبوة!!!!.