سمي المحراب محراباً لأن المؤمن يحارب فيه الشيطان ويعبد فيه الرحمن، وهو بالأصل غرفة مقصورة للعبادة، وهي الحجرة التي اتخذتها مريم حجاباً من دون قومها، وكلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، وظلت كذلك في الأديان إلى أن جاء الإسلام فأمر أن يكون الإمام بين الناس ولم يعد ثمة وجه للانفصال عن الناس، وصار المطلوب هو التواصل بالأمة إلى الوجه الذي ترتقي فيه القلوب إلى علام الغيوب، فاقتصر المحراب على فجوة في جدار القبلة ترمز إلى مكان الإمام دون أن تمنحه فرصة للانفراد عن الناس والتميز عليهم، وهو جزء من رسالة الإسلام في هدم امتيازات الكهنة على الناس، وهي امتيازات تعاود ظهورها بين الحين والآخر تحت عمائم شتى تستوجب الإنكار الشديد من أهل التوحيد.
أما المحراث فهو اسم آلة من الحراثة، وهو في الإسلام أفضل المكاسب، وفي جدل بين علماء الشريعة حول أفضل المكاسب جزم الماوردي بأن الزرع أفضل المكاسب وذلك أن التاجر يشتري بضاعته ويرقب الأسواق والسيولة والقوانين التجارية والتصدير، والصانع يصنع سلعته ويرقب أنظمة القطع ومشروعات الحكومة، أما الزارع فإنه يبذر الحب في الأرض ويتوكل على الله، وإلى السماء دعاؤه ورجاؤه يقول اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
وقال النووي إن أفضل المكاسب هو ما كان بعمل اليد تجارة أو صناعة أو زراعة.
على كل حال فكسب الزارع هو أيضاً كسب يده وقد رأى النبي الكريم رجلاً مجلت يداه في الزرع فأثنى عليه وقال: هذه يد يحبها الله ورسوله.
أما سبب كتابتي هذه السطور اليوم فهو ما أنعم الله به على سوريا من نعمة الغيث الأسبوع الماضي، فقد بلغ مجموع الهطولات في شمال وشرق سوريا خمسة أضعاف ما كان يهطل في المواسم السابقة وحصلت دير الزور على ثلثي الموسم قبل أن يدخل فصل الشتاء وهي حالة نادرة ولكنها تحملنا مباشرة إلى قول النبي إن الله يحب من أحدكم إذا أحدث له نعمة أن عندها شكراً.
ولكل نعمة شكر، فشكر العلم التعليم، وشكر المال الإنفاق، وشكر الجاه نصرة المظلوم، وشكر القوة الدفاع عن الحق، وشكر الذكاء احترام الخلق، وشكر الجمال العفاف، وشكر السلطة العدل، وشكر العافية الصدقة، وشكر الفصاحة قول الحق، وشكر الغيث يتعين في تسخيره لما أنزله الله، فالأفراد مأمورون برعاية النعمة وحسن التدبير، والدولة مأمورة ببناء السدود وحماية الأنهار وكرائها وتنظيفها وتجميلها، ويجب أن تعود ثقافة الغرس والزرع إلى مكانها التعبدي وألا يكتفى بها في ميدان العمل الاستثماري والسياحي.
قال سبع يجري للعبد أجرهن بعد موته: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته، وقال: التمسوا الرزق في خبايا الأرض.
وشكر نعمة الغيث يحتم مواجهة عدو مباشر هو التصحر الذي يفترس البساتين،ويلون اللون الأخضر بالبني، ويخنق رئة الحياة التي يتنفسها الناس.
إن السماح للباطون بافتراس غوطة دمشق وزراعة الحجر الأصم فيها ليس مجرد خطأ هندسي، إنه في العمق معصية كبيرة لله سبحانه، وخطأ ديني فاحش، وتجفيف نهر بردى من مجراه ليس مجرد سوء تدبير قامت به البلديات، وأخطاء وقعت بها مراكز الاستشعار والدراسات، إنه في الحقيقة إحدى الكبائر الموجبة لسخط الله سبحانه وتعالى، وهي التي شرحها القرآن الكريم بقوله: لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، وواضح من قراءة الآية أن النعمة التي يمن بها الله على سبأ إنما كانت في سد مأرب الذي أثمر نهضة زراعية حقيقية، وأن الغضب الإلهي الذي نزل بهم إنما تمثل في انهيار السد وضياع الثروة المائية، ومع أن هذا الانهيار هو مجرد خطأ هندسي وإداري يتعلق بأحجار السد وجدرانه وعنابره ولكنه وصف في القرآن بأنه انتقام إلهي رهيب وأنه قرينة الكفر والفجور، وهل نجازي إلا الكفور؟؟
وددت لو زودنا هنا فقهاء التكفير بمفردات قواميس الكفر والزندقة والضلالة والانحراف ومجدداً مفردات العمالة والماسونية والافتتان بالغرب التي تعودنا أن نسمعها عندما يفتى بدخول الحائض المسجد أو الأضحية بالدجاج بدل الشاة أو مصافحة المرأة فهذا السلوك الفردي لا يمكن أن يقارن على الإطلاق بهذه الكبائر التي تورط فيها المجتمع برمته عبر ولاة أموره في هدم البيئة النظيفة التي خلقها الله في أرض الشام خلال التاريخ.
حين ينص القرآن صراحة على منزلة العلماء في سورة فاطر: إنما يخشى الله من عباده العلماء، فإن الخاطر يقفز عادة إلى أصحاب المحراب الذين يسهرون على إمامة الناس في الصلاة والمناجاة والدعاء، وهم بلا شك مشمولون بدلالة الآية ، ولكن نادراً ما نتذكر أصحاب المحراث، الذين يلتمسون الرزق في خبايا الأرض ويقومون برسالتهم في تسخير الأرض لإطعام الطعام لعباد الله، وجعل الحياة خضراء ندية طهوراً تسبح الله ويقتات منها عباده، ويجب القول إن دلالة الآية أعم وأشمل وهي تتصل بكل علم نافع يعود على الناس بالخير والبركة والمعروف والإحسان.
في صدر الآية قول الله تعالى: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وواضح أن المراد هنا هو علم الزراعة والاستمطار، ثم قال تعالى: ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلفاً ألوانها وغرابيب سود، والغرابيب السود هي الجبال شديدة الدكنة، عبر عنها بالغرابيب تذكيراً بسواد لون الغراب الذي لا يشيب.
وهذا كما هو واضح يتصل بعلوم الجيولوجيا وطبقات الأرض، ثم يقول ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، وواضح أن المراد هنا هي علوم الحيوان والنبات وبيولوجيا الإنسان، وهنا بالضبط يرد قول الله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء!!
إن السياق كله في خدمة حقيقة كبرى هي أن الله تعالى جعل كل علم نافع، وكل سعي في تسخير خيرات الأرض عبادة وطاعة لله، وامتثالاً لأمره، وأن آيات الله في المنابر ليست أكثر من آيات الله في المخابر، وأن العبادة في المحراب لا تغني عن العبادة في المحراث.
ومباشرة يحق لنا أن نتساءل هل جفاف بردى وقويق بهذه الصورة المحزنة هو صورة طاعة أم شكل معصية، هل يشفع لنا بناء المساجد والمدارس والمطاعم على ضفافه ونحن نخنقه بتحويل مائه عن مجراه كل يوم، ونحوله من جنة عدن إلى محض وخم؟ وإلى متى سنظل نفشل في تأمين حاجة دمشق الكبرى من الماء إلا على حساب شرايينه وأوردته التي يعيش بها ويمنحنا من خلالها الحياة والجمال؟ وأي حزن سيعصف بضفاف ما تبقى من النهر المفجوع عندما يتذكر أغنية أمير الشعراء أحمد شوقي:
جرى وصفق يلقانا بها بردى كما تلقاك دون الخلد رضوان؟