مقالات

د.محمد حبش- العرب والزمن مرة أخرى 4/1/2008

للمرة الثالثة على التوالي يعطل السوريون يوم الثلاثاء حيث عطلنا الثلاثاء الأول بمناسبة الميلاد والأضحى والثلاثاء الذي يليه بمناسبة رأس السنة الميلادية والثلاثاء القادم بمناسبة يوم الهجرة ورأس السنة القمرية، وبالمناسبة فإن العطلة يوم الثلاثاء هي عادة الفقهاء منذ زمن بعيد حيث يعتقد أنه في ذات ثلاثاء من عام 150 هجرية مات الإمام أبو حنيفة وفي اليوم نفسه ولد الإمام الشافعي وكانت العبارة أننا نفرح بالمولود ونحزن على المفقود ونسبح الرب المعبود، ولهذا كله كانوا يعطلون عن الدراسة كل ثلاثاء وفاء من تلامذة الإمامين الجليلين للعلم والعلماء.
وبالمناسبة فإن مصطلح تلامذة لم يكن شائعاً في عصر الحضارة الإسلامية ولا في عصر المجد العربي بل كانت العبارة المحببة لديهم هي كلمة الأصحاب، فيقال أصحاب الشافعي وأصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة واشتهر لقب الصاحبان والطرفان والوسطان ولم يرد مصطلح التلميذان مما يؤكد لك حقيقة الاحترام الذي كان يسود العملية التعليمية في البلاد، ولم يكن فيه لغة التعالي والغطرسة التي نعيشها اليوم ويكابدها العالم والمتعلم على السواء.
على كل حال ليس هدفي اليوم أن أكتب المقامة الثلاثائية، بل هو استطراد يذكرني بالكلمة التي كان الشيخ محمد حمزة رحمه الله يذكرها لنا في كل حصة درسية تحت عنوان والشيء بالشيء يذكر، وبالمناسبة فإن الدميري في كتابه حياة الحيوان الكبرى وهي موسوعة علمية كبرى عن الحيوان وطباعه وخصائصه، وفي معرض حديثه عن طائر الإوز ذكر أن أحد الخلفاء الأمويين كان يتشاءم من طائر الإوز وقال والشيء بالشيء يذكر فذهب إلى ذكر خلفاء بني أمية وأخبارهم وأيامهم واستغرق ذلك مائة وأربعين صفحة ثم عاد ليكمل حديثه عن طائر الإوز، وقال وهذا أوان الشروع في المقصود والتوكل على الرب المعبود والله تعالى أعلم.

وبالمناسبة والشيء بالشيء يذكر فإن حمورابي هو أول من جعل أيام الأسبوع سبعة، وأطلق عليها الأسماء التي نعرفها اليوم، وحين أطلق قوانينه في العراق قبل أربعين قرناً كانت أمريكا غارقة في غياهب النسيان، وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن الغرب اكتشف أمريكا بعد عصر حمورابي بأكثر من ثلاثة وثلاثين قرناً، وعلى الرغم من أن العولمة تميل إلى ازدراء القديم ولكنها لم تستطع أن تخرج من جلدها ولم تستطع أن تبتكر للعالم توقيتاً آخر يخرجها من قيادة العرب، فلا هي في التوقيت خارج إرادة المسيح، ولا هي في الأسبوع خارج إرادة حمورابي، ولا هي في الهلال خارج إرادة محمد.
واختار حمورابي أن يقسم العام إلى اثني عشر شهراً اعتبارياً، وأن يقسم الشهر إلى أربعة أسابيع، ولم يكن في مؤقتة الجغرافيا ما يفرض هذه القسمة كما هو الحال في السنة الشمسية أو في الشهر القمري، فالشهر القمري حقيقي ولكن السنة القمرية اعتبارية، والشهر الشمسي اعتباري ولكن السنة الشمسية حقيقية، بمعنى أنها لا تتوقف على إرادة أو قرار، فالسنة الشمسية تتجدد بشكل تلقائي وسيعرفها الإنسان من دون حمورابي ولا خوفو ولا خفرع ولا منقرع، وكذلك الشهر القمري مرسوم في صفحة السماء لا تملك سلطة في الأرض أن تجعل الشهر القمري أربعين يوماً أو خمسين بل هو ثلاثين قد تنقص يوماً وفق ما يرسمه المحاق في الأفق، ولكن الشهر الشمسي والأسبوع بأيامه السبعة ليس مسالة جغرافية أو فلكية بل هو محض قرار إداري فرضه حزم حمورابي وحكمته، وكذلك السنة القمرية فهي اعتبارية وكان يمكن أن تكون عشرين شهراً أو ثلاثين أو عشرة، ولكن موقف الخلفاء المسلمين وحزمهم هو الذي حسم مسألة السنة القمرية في اثني عشر شهراً، والعرب منحوها أسماءها ورصدوا القمر في منازله وفق ما أخبر القرآن الكريم: والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، وبالجملة فالأمر كما قال الله تعالى وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً.
ومن الثلاثاء إلى الثلاثاء بين يومي الهجرة والميلاد سيدرك العالم معنى أن تكون الأمة العربية في مكان القلب من الدنيا، فالرجل الذي نظم للعالم ميقات الشمس هو السيد المسيح عيسى ابن مريم، والرجل الذي نظم للعالم ميقات القمر هو الرسول الكريم محمد.
ولكن هل يكفي التغني برسالة العرب في ضبط الزمن في الأرض، وإثبات أن الأمم عالة على العرب في ضبط الزمن، ألا يدفعنا هذا إلى طرح السؤال البدهي: ما هو موقع الزمن في حياتنا اليوم؟ وهل نحن بالفعل أكثر الأمم وعياً بقيمة الزمن، وأكثر الأمم استثماراً للوقت وحرصاً عليه؟
كيف نجيب على هذا السؤال؟ حين أقرأ المشاريع التنموية التي يتم الإعلان عنها على لوحات كبيرة، في يلبغا على سبيل المثال اللافتة الكبيرة على جدار المبنى تقول إن مدة التنفيذ ثلاثون شهراً ولكن الواقع أن ثلاثين سنة مضت والبناء يرفع ذراعيه للسماء شاكياً إلى الله: العباد قد ظلموني، حين أقرأ إعلاناً يكفر بالزمن كهذا الإعلان، أخشى أن أجيب على هكذا سؤال بقول الأول:
لئن فخرت بآباء ذوي شرف لقد صدقت ولكن بئسما ولدوا

ومن جانب آخر والشيء بالشيء يذكر، وعلى ذكر حمورابي فهو أيضاً عربي أصيل، ولكنه من غير عدنان وحين اختار الرسول الكريم أن تبقى أسماء الشهور والأيام حمورابية عراقية بابلية فإنه أراد من خلال ذلك أن يقول إن العرب أكبر من عدنان، وإن علينا أن نتفهم موروثنا الثقافي وليس بالضرورة أن يوافق عرفنا اللغوي العدناني، ولو أراد أن يمشي عكس التاريخ والجغرافيا لفرض تعريب الأسماء على وفق لغة قريش من الموروث العدناني، ولألزمهم القول: يوم الواحد بدل الأحد والثاني بدل الاثنين والثالث بدل الثلاثاء والرابع بدل الأربعاء والخامس بدل الخميس والاجتماع بدل الجمعة والسبات بدل السبت، فهذه هي لغة عدنان وهي لغة القرآن، ومثل ذلك في الشهور، ولكن الرسول الكريم لم يكن في وارد التمرد على كل قديم، وكان يدرك أن التعريب الأصم للأشياء سيفقدك فريقاً غير قليل من أبناء الأمة في العراق والشام ومصر التي كانت تتحدث العربية من غير عدنان ومن حقها أن تجد في الخطاب الجديد ما يحمي تراثها، بل إن القرآن أبقى عشرات الكلمات من العربية القحطانية والآرامية والكلدانية والسريانية والعبرانية لا نزال نقرؤها كل يوم في القرآن وأوضحها أسماء الأنبياء فلم يعرب الأسماء على وفق لهجة عدنان ولم يقل: النائح بدل نوح والدارس بدل إدريس والمسموع عند الله أي المقبول عند الله بدل اسماعيل، والمسالم بدل سليمان، والأواب بدل أيوب، والأنيس بدل يونس، والأسيف بدل يوسف، إلى آخر الأسماء، لم يغير شيئاً وإنما تركها على اللهجات المحكية من آرامي وسرياني وعبراني وكلداني .
وهذه الإرادة النبوية في التوسع في قاعدة اللغة العربية كانت ضرورية حدا لاحتضان ملايين العرب الذين كانوا يعيشون تقليدياً خارج حدود الجزيرة العربية، وينتمون إلى أجداد آخرين غير عدنان.

والخلاصة إن الثلاثاء القادم هو عيد الهجرة النبوية أو قل هو عيد رأس السنة القمرية، وهو يوم مجيد تأسست فيه أول دولة للإسلام على أرض المدينة واختارها الصحابة مبدأ لتاريخ الإسلام ولكن هذه الذكرى وللأسف لا تحظى بما تحظى به أخواتها الأيام المباركات في سوريا من العناية والتقدير، فسوريا تحيي رسمياً ست مناسبات دينية إسلامية وهي ليلة الإسراء وليلة النصف من شعبان وليلة القدر وعيدي الفطر والأضحى وعيد المولد النبوي، حيث تقيم وزارة الأوقاف مناسبات دينية رسمية في مختلف المحافظات لإحياء هذه الذكرى ولكننا بصراحة لم نفعل شيئاً لإحياء ذكرى الهجرة كما يليق بأيامها.
في تاريخ الإسلام أيام لا يجوز أن تنسى ومنها يوم الهجرة الذي أرخ به المسلمون ويوم فتح مكة الذي هو أعظم أيام المرحمة في تاريخ الإسلام ويوم معركة بدر التي كانت أول لقاء فاصل بين الإسلام والكفر والتي هي يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير.

في الواقع أمسكت القلم لأكتب لكم اليوم عن ذكرى الهجرة ولكن الشيء بالشيء يذكر وتواثب الأفكار أخذنا بعيداً، من حمورابي إلى يلبغا حتى ضاق القرطاس عن البيان، فإن كان في الأجل فسحة وافيتكم بحديث الهجرة يوم الجمعة القادم وإن كان لله مراد فليس لنا فيه اجتهاد، وقد أقام العباد فيما أراد وهو المراد فيما يريد.

Related posts

د. محمد الحبش- يوم ودعت دمشق آخر الكبار .. صادق حبنكة … رجل الإشراق والأذواق 9/11/2007

drmohammad

د.محمد الحبش- نحو فهم جديد لرسالة الزكاة 28/9/2007

drmohammad

د.محمد حبش- حوار فنلندا: من احتكار الخلاص إلى احتكار الحياة 8/12/2006

drmohammad

Leave a Comment